لماذا يؤدي التعليم الي غرس وتدعيم التطرف الديني؟ ولماذا تختفي الأهداف القومية الكبري من التعليم؟ ولماذا أصبحت لدينا كل تلك النظم التعليمية المتنافرة؟ والتي تدفعنا إلي ضرورة التسليم بأن العشوائية هي السمة الأبرز في تعليمنا في مطلع القرن الحادي والعشرين واظن أن غياب المشروع الثقافي للدولة هو أحد أهم أسباب العشوائية, إذ ان المشروع الثقافي يعد هو المجال العام والإطار الشامل الذي تعمل القوانين في ضوئه وعلي هديه, كما أن ذلك المشروع الثقافي هو الروح النابضة في الجسد الاجتماعي العام, والذي يمثل عقل ذلك الجسد وفي ضوء أهدافه تتضافر جهود المجتمع بمختلف مؤسساته وقواه في سبيل الغايات التي يتوخاها ذلك المشروع. ومن هنا فإن غياب المشروع الثقافي قد ترك فراغا كبيرا يمكن لكل صاحب مشرع بديل ان يملأه, بصرف النظر عما اذا كان ذلك المشروع البديل يحظي باجماع وطني عام, أو انه يقوم اساسا علي شق الصف الوطني والعصف بذلك الاجماع الوطني العام, أو ان يتوقف تأثير غياب ذلك المشروع الثقافي عند تحويل مختلف المؤسسات التعليمية والأنشطة الاجتماعية الي جزر منعزلة يرتع فيها الفساد واصحاب المصالح الشخصية. وقد انعكس غياب المشروع الثقافي بلا شك علي اخفاق التعليم في تحقيق اهدافه السياسية بل وفي اخفاق احداث اي استنارة سياسية, وتعميق المشاركة الشعبية الي حد ارتباط العزوف والمقاطعة بفئات المتعلمين والمثقفين دون غيرهما من الفئات, وتنامي اللامبالاة بالشأن العام لدي قطاعات الناشئة والشباب دون غيرهما من القطاعات نتيجة ما تربت عليه ونشأت في وسائط التربية ومؤسسات التعليم من قيم اللا حوار وثقافة الصمت او ما تصادمت معه داخل تلك المؤسسات من ممارسات قمعية غير مبررة, واهتمام بالضبط علي حساب التطبيع والتنشئة, ومن تمييز بين ذكور واناث واغنياء وفقراء, واستغلال للوظيفة وتربح منها, وتكريس للسلوكيات الذرائعية, وتصفية للحسابات الاجتماعية. ولا شك ان التعليم يعكس بما لا يدع مجالا للشك التركيبة الاجتماعية في اي مجتمع ويساعد علي استمرار هذه التركيبة والمحافظة عليها وتدعيمها ايديولوجيا. وتراخي قبضة الدولة عن السيطرة علي مختلف المؤسسات والأنشطة الاجتماعية الدولة الرخوة كما يسميها جلال أمين والتراخي في تطبيق القانون, وهو الامر الذي اتاح لاصحاب المصالح المختلفة الفرصة لاستغلال ذلك الوضع, وانشاء العديد من المؤسسات التعليمية بعيدا عن القانون, أو العبث بالقانون نفسه داخل مؤسسات الدولة التعليمية. وسعي الدولة للتخفف من اعبائها ومسئولياتها الاجتماعية في العديد من مجالات الصحة والتعليم, وهو الامر الذي ساعد علي تشجيع الراغبين في الحصول علي المكسب السريع والمضمون عبر الاستثمار في ميدان التعليم والمعاهد والجامعات الخاصة مع الالتزام بالقانون احاينا, وبالخروج عن ذلك القانون في أحيانا أخري كثيرة. ويعد غياب معايير الجودة والاعتماد الاكاديمي, وهو الامر الذي ادي الي السماح بقيام العديد من المشروعات التعليمية سواء كانت مدارس أو معاهد خاصة, في شقق سكنية غير مناسبة اطلاقا للقيام بأي وظائف تعليمية أو تربوية, فضلا عن غياب المواصفات المحددة لاعضاء هيئات التدريس ومؤهلاتهم ونسبتهم الي الطلاب. شيوع ثقافة الفساد والتي هيأت لاصحاب الرغبة في الكسب السريع عبر المشروعات التعليمية الحصول علي التراخيص المطلوبة للعمل وممارسة الانشطة التعليمية المختلفة, بدون سند من القانون. وهناك ايضا العشوائية الموضوعية, فطالما ان المعلمين يوقعون في دفاتر الحضور والانصراف, وان الموجهين يرفعون تقاريرهم الي المستويات العليا باستمرار سير العمل, كل هذا دون الالتفات لما يتحقق فعلا من تقدم في عملية التعليم والتحصيل, هذا مع رغبة قيادات التعليم في تفادي المساءلة عن الفشل أو العشوائية, قد ادي الي وصول الطلاب الي الحصول علي الشهادة الاعدادية دون اجادة القراءة أو الكتابة من الاساس. يضاف الي ذلك فيما يتعلق بالعشوائية الموضوعية, ان امتحان المقال قد تمطي واستطال ليهيمن علي العملية التعليمية في المدارس الحكومية, بل وقد اصبح هدفا في حد ذاته, وهو الامر الذي ادي الي تدهور مختلف الانشطة التربوية, والاكتفاء بذلك الامتحان الذي يقيس ما حصله التلميذ من معلومات فقط بصرف النظر عن قدرة التلاميذ علي التحليل والتركيب والابداع وغيرها من مهارات التفكير, ومن هنا راح التلاميذ يبحثون عن الوسائل التي تمكنهم من النجاح في مثل تلك الامتحانات, عبر الدروس الخصوصية ومراكزها, وعبر الكتب الخارجية, وقد ادي هذا الوضع, كما يقول طه حسين بالتلميذ الي ان يكبر الامتحان وهو تافه ويعرض عن التعليم وهو لب الحياة وخلاصتها. اما مخاطر العشوائية في المؤسسات والخدمات التعليمية فهي عديدة, ويتجاوز نطاق تدميرها المستوي الفردي الي المستوي الاجتماعي بل الي المستقبل القريب والبعيد, فلقد اصبح التعليم في العقود الاخيرة ليس مجرد واحد من اهم قوي التقدم والتطور في المجتمعات, بل اصبح هو اكبر عوامل التقدم في المجتمعات كلها. وتثبت تجربة النمور الآسيوية اهمية التعليم في الصعود بمكانة تلك الدول الي مصاف الدول الكبري, ومن هنا فإن استمرار العشوائية في التعليم من شأنه ان يلقي بظلاله القاتمة علي امكانية ان تتمكن مصر في المدي المنظور من الدخول الي حلبة المنافسة في سبيل اللحاق بالعصر. اما علي المستوي الاجتماعي فإن العشوائية التعليمية تؤدي الي استنفاد الكثير من الجهد والوقت والمال, سواء في مشروعات تعليمية غير فعالة أو مجدية أو غير قانونية ومن ثم يترتب علي هذا الحصول علي شهادات لا تساوي شيئا فيما يتصل بالمهارات أو القدرات الحقيقية للافراد والتي تؤهلهم للمنافسة في سوق العمل ويضاف الي ذلك إشاعة مناخ من الاحباط والشعور بالعبث فيما يتعلق بقضية الجهد التعليمي والبحثي, فطالما يتساوي المجتهد مع الفاشل, فما مبرر بذل الجهد والتميز والاهتمام, وهكذا يسود الشعور بالاحباط, وبأن الحياة والتقدم لا يقومان علي الجد والاجتهاد, وانما يقوم علي الفرص العشوائية التي قد تتوافر لسبب أو لآخر لا يمت للجهد بصلة. ويبقي بعد ذلك ان تلك العشوائية تلقي بظلالها القاتمة علي مبادئ اجتماعية سعي المجتمع المصري الي تفعيلها واتخاذها اداة ومعيارا للمكانة وللمنصب والحراك الاجتماعي, مثل مبدأ تكافؤ الفرص الذي ارتبط منذ البداية بنشأة التعليم الحديث في مصر منذ بداياته في عهد محمد علي, وتم ترسيخه في العصور التالية حتي اصبح في الفترة بين ثورتي1919 و1952 المعيار الحاكم لتولي المناصب وتحصيل المكانة في الدولة الحديثة, وفي ظل تلك العشوائية فإنه ستتساوي فرص المجتهدين الحاصلين علي شهادات حقيقية من جامعات حقيقية, مع الحاصلين علي شهادات ورقية وشكلية من جامعات أو معاهد تعمل خارج القانون وبالقفز عليه. ومن هنا فلا سبيل الا بمشروع ثقافي يعبر عن اجماع وطني عام, تتبناه الدولة وتقيمه عبر القانون بحزم داخل جميع مؤسساتها وفي القلب منها مؤسسة التعليم. [email protected]