تتعدد مشكلات ومعوقات الوصول بنظامنا التعليمي إلي المستويات المأمولة من الفعالية والتميز والكفاءة, ونحن حين نقيم مخرجات العملية التعليمية لدينا فإننا نضع نصب أعيننا أولا احتياجاتنا التنموية من العنصر البشري والذي عليه أن يتحمل عبء بناء مصر الحديثة, وأيضا نقارن مستوي ما تقدمه المؤسسة التعليمية في مصر بالمستوي المتقدم لنظيرتها بالدول الحديثة كالولاياتالمتحدة ودول غرب أوروبا وما شابهما. إلا أن تلك المقارنة يجب أن تستند أولا علي فرضية أساسية وهي اتحاد أو تقارب أو تشابه إمكانات طرفي المقارنة, فهل إمكاناتنا الشاملة تتشابه أو تتقارب أو حتي يمكنها أن توضع مع إمكانات الولاياتالمتحدة مثلا وقدراتها في وعاء أو ميزان واحد؟ بالقطع لا.. ومن المسلم به أن إمكانات وقدرات أي مؤسسة تعليمية هي المعول الأول أو حجر الأساس في إنتاج مخرجات أي نظام تعليمي, فإذا كانت قوية وقادرة وكافية ساعد ذلك بالقطع علي إنتاج مخرجات تعليمية جيدة, والعكس صحيح كليا. فلا مجال هنا لإعمال المثل الشعبي القائل الشاطرة تغزل برجل حمار, أو الإيمان بفعل المستحيل, فالعملية التعليمية الآن وفق المتغيرات المستحدثة واحتياجها لأدوات فنية مساعدة وتعليمية حديثة وما وصلت إليه وقبل كل ذلك النظر بعدالة وموضوعية لرفع مستوي المدرس العلمية والمادية, لابد وأن تتطلب كلها مبالغ طائلة للإنفاق عليها, وقديما قالوا علي قدر لحافك مد رجليك. بالطبع إمكاناتنا وقدراتنا ليست مثل إمكانات وقدرات أي دولة متقدمة مثل دول غرب أوروبا والولاياتالمتحدة واليابان, وهي الدول التي تقارن مستوي العملية التعليمية لدينا ومخرجاتها معها, لذلك فالمقارنة ظالمة بكل المقاييس وعلي كل المستويات, والأغرب من ذلك أن نجد تلك الدول عظيمة الإمكانات لا تتبع سياسات تعليمية نصر نحن علي اتباعها والتمسك بها حرصا منا علي مثاليات وشعارات عفا عليها الزمن ومباديء تجاوزتها الأيام.. مثل المحافظة علي مكتسبات قوي الشعب العاملة والتي تعبر عنها شعارات مجانية التعليم من الألف للياء وبالطريقة التي نطبقها بها نحن. كيف يمكن لدولة في أوضاعنا الاقتصادية بإمكاناتها التي هي دون الصفر بقليل أن تأمل في أن يكون لديها برنامج تعليمي يمكن أن يرقي لمستوي المقارنة مع نظيره في الدول المتقدمة, وهو يبدأ من تلك الإمكانات والمدخلات المتواضعة للغاية, إن إصرارنا علي التمسك بهذه الاستراتيجية هو تكريس لواقع مؤلم مظلم وميئوس منه لمستقبل التعليم بمصر, ويشكل أيضا إرهاقا لميزانية الدولة بصورة عظيمة وبدرجة لا يمكن تصور أن تبرأ منه في المستقبل القريب أو حتي البعيد, كما أن نتمني مستوي للتعليم لا يمكن أن يتحقق أبدا.. فكلما قمنا بضخ أموال في الميزانية المخصصة للتعليم قابلتها الأيام بأوجه صرف جديدة حتمتها ظروف التطور, مثل حتمية إستحداث أدوات ووسائل تعليمية جديدة إلا أنها أساسية كأجهزة الكمبيوتر والمعامل المتطورة وغيرها, أو حتي دخول أعداد من الطلبة للمدارس زيادة عن طاقاتها الحالية أو الفعلية بمقتضي الزيادة الطبيعية في عدد السكان, جريا وراء سراب وتمسك بالأوهام وتمني أهداف يستحيل تحققها في ظل تلك المعطيات, أو حتي يمكن أن تتحقق لدول أعظم منا قدرة وإمكانات, والتمسك بتلك السياسة المجانية الخاطئة في التعليم فيه ظلم بين وواضح للمسئولين عن العملية التعليمية وتحميلهم بأهداف لا يمكن أبدا أن يحققوا جزءا منها وفق هذه الظروف, وأيضا إرهاق للدولة وظلم لإلتزاماتها وأهدافها الأخري التي توجه جزءا من ميزانياتها وتلقيها في بالوعة التعليم التي لا تمتليء أو تكتفي أبدا. إن أول طريق لحل المشكلات هو معرفتها وثانيها الشجاعة في مواجهتها, ثم إن مبدأ مجانية التعليم أساسي وجوهري ولا يمكننا أن نطالب بإهداره, فقط يجب إعماله بصورة سليمة تضمن فعاليته وانتفاع من يستحقه به فقط, أما من لا يستحقه فلا يمكن أبدا أن ينفق عليه وعلي تعليمه غير القادر أو المحتاج والذي يدفع الضرائب التي تأخذها الدولة وتخصص الجزء الأعظم منها لميزانيات التعليم, إن إعمال مبدأ مجانية التعليم عمال علي بطال وبصورة مطلقة هو في حقيقته تعطيل لعمل هذا المبدأ وتعويقه عن أدائه لوظيفته في النهاية, أي في قول بسيط إلغاؤه فعليا, حيث تكثر مثالبه وتعم أخطاؤه وتنعدم فائدته.. لذلك علينا أن نتمسك به جيدا بتطبيقه بصورة سليمة وحقيقية, لأن غير ذلك بالتمسك بمجانية التعليم للجميع.. للقادرين وغير القادرين.. الفاشل معتاد الرسوب والمجد المحتاج للتعليم, يعني حقيقة عدم تطبيقه علي المحتاجين الذين يضطرون لضعف إمكانات وقدرات التعليم الرسمي والذي يثمر مستوي تعليمي منحطا ويفاقم ظاهرة الدروس الخصوصية التي تكبدنا مبالغ طائلة, أي بمعني أوضح لا مجانية للتعليم بل إنفاق من الدولة علي من لا يستحق وهم الأغنياء ومصروفات من المحتاجين والبسطاء في غير طريقها ومكانها وهم المدرسون الذين يمتهنون مهنة الدروس الخصوصية من دم وعرق وجهد البسطاء. إن إعمال مبدأ مجانية التعليم بصورة سليمة لا يهدر أبدا مبدأ التكافل الاجتماعي ومكتسبات الشعب العامل, بل يحافظ عليها ويعطيها الاستمرارية والدوام, لأنه آجلا أو عاجلا لن تقوي الدولة علي الاستمرار علي هذا النهج وستتحول عنه مرغمة, وحينئذ لا يعرف أحد أسلوبها أو طريقها في التصرف مع تعليم الفقراء, لذلك وجب علينا أن نتصرف الآن ونحن نملك قرارنا ووقتنا قبل أن نضطر إلي ذلك مستقبلا وبعد أن تتفاقم مشكلات سوء نظامنا التعليمي ونتائجه وآثاره المتشعبة علي كل قطاعات الدولة والمجتمع وبصورة يستحيل علاجها.