وجدها تنتظره في محطة المترو.. مسحور ومجذوب ليديها وعينيها.. لتلك الصحاري التي تسحله إليها.. لها وجنتان رائعتان.. يمكن للبيض أن ينضج فوقهما ببساطة.. سيحدثها عن وحشة الأمسيات التي مرت دونها.. وغصة قلبه.. وملكوت نرجسها.. وعن جبالها الوعرة التي لم ينجح حتي الآن في تسلقها.. أخذ يقفز درجات سلم المترو في رشاقة لم يعهدها ليلحق بها.. يتأجح شوقة لها.. وحدها تضمد جراحات الأيام.. وعذابات وشرور بشر يحملون في داخلهم خرابا بحجم الكون.. في المترو.. لم تكن هي.. تراجعت ابتسامته وامتقع وجهه وغامت عيناه.. وبردت أطرافه وارتعشت... متتالية ثانية: تبتلعه الحواري الضيقة المتداخلة في بعضها.. يلف معها ويدور.. حتي انتهي إلي زقاق مسدود.. هاجمته عتمة المدخل ورطوبة الجدران.. عيناه تنفذان إلي شيش شباكها.. اطمأن لوجودها بالداخل.. حين لمح تسلل ضوء شحيح من بين فرجات درف الشيش الخشبي القديم.. طرق الباب مرة.. مرتين.. ثلاث.. لا أحد يجيب.. ركل الباب بقوة فانفتح.. بينهما مسافة قصيرة.. لن يعاتبها علي الغياب.. سينبسط بينهما الحوار ويتمدد ويتشعب كاللبلاب الأخضر في بساتين الراحة.. لن يتوقف عن سرد الحكايات المتسكعة علي سطور الذكريات.. رائحة ضفائرها موغلة بذاكرته.. صرير أبوابها الموصدة حجب تقاسيم وجهها.. أكتشف أن ذاكرته هرمة.. متعبة.. موبوءة بالصدأ... إنه في المكان الخطأ.. تصفعه دروب معتمة.. وأبواب موصدة.. وجدران باردة متتالية ثالثة: القمر يبدد الظلمة.. يرسل ضياءه ليكسب ماء النهر لونا فضيا رائعا وجميلا.. ارتمي مستلقيا بجوارها.. كحطام سفينة قذفتها موجة عاتية نحو رمال شاطيء مجهول.. كم كان رائعا القمر الذي فتح بواباته الفضية في المساء لعينيها الجميلتين.. قلبان علي جذع شجرة اقتعلتها الرياح.. يشم عطرها.. تدور عيناه في الاتجاهات الأربعة.. ترصدان الأشياء المبعثرة هنا وهناك.. وتحاولان التقاط النجوم المتناثرة والمتساقطة من بين السحب.. المكان غارق في السكون.. يبدأ طقس الوجع في غيابها.. تطبق جفونه قليلا.. متجهة نحو رحلة نوم مسكرة.. متآمرة علي ما تبقي من عمر بائس.. يمر دونها بلا معني... متتالية أخيرة: دارت به الدنيا دورات.. تلو دورات.. وصارعته الأقدار.. وطرحته أرضا.. استطاع في بعضها مغالبيتها.. والوقوف علي قدميه من جديد.. صوتها ينحدر من تل عال.. قطرات من الحياة.. تسري في قلبه.. يراقب الأطيار عن كثب.. ويفتح صدره لنسمة جذلة.. يغوص في أعماق الطبيعة.. تداعبه الشمس البرتقالية.. ينفض الألم الرابض حوله.. ابتسامة مباغتة اعتلت وجهه المتعب.. الذي قل أن تنفرج أساريره.. يكافح وهو يكبح حزنه المعتق.. تتحدث اليه ببساطة ورقة.. تتوغل بيسر وعمق وسهولة إلي داخل نفسه.. مستسلما لسطوة حضورها الجميل وطغيان روحها الأثرة.. ماهذا الكرم الخرافي.. والتواضع الشديد.. وهذه البساطة اللامتناهية.. وروحها الملائكية..؟ عيناها الجميلتان تمتصان أحزانه.. وتجفف نبضات قلبها دموعه التي إنسابت كالمطر المباغت.. يفقد تماسكه واتزانه.. وهي تجيب عن سؤاله.. أين أنت..؟ قائلة أنها بداخله.. لم تغادره قط.