كنت أنا وصديقي( كمال) متفقين في كل نواحي الحياة إلا في شيئين.. تشجيع فريق الكرة المفضل لدينا.. وتقييم شخصية( لطفي سلام) أو( لطفي افندي) كما كان يطلق عليه أهل قريتنا.. وكان( لطفي سلام) نموذجا متفردا من شخصيات قريتنا.. فرض سطوته ونفوذه وهيمنته علي جميع رجال ونساء القرية وأصبح الحاكم الآمر الناهي بها وهو الأوجه بين أهلها من حيث مسكنه الفاخر وملبسه النظيف الأنيق وأكله لجميع المأكولات التي لم يسمع عنها أهل القرية إلا من خلال خادمته التي تذهب إلي البندر لتشتري متطلبات الأكل فيراها أهل القرية وتشرح لهم ما لا يعرفونه وما يعرفونه عن بعد من أشهي الأطعمة.. للدرجة التي جعلت جميع أهل القرية يحسدون الخادمة علي المكان الذي تتقلده.. لأنها من المؤكد أنها ستأكل ما تبقي من طعام لطفي أفندي وأسرته.. ومن العجيب أن تلك المأكولات الفاخرة وملبسه وجميع متطلبات معيشته كان الممول الرئيسي لها هم أهل القرية.. فقد كان لطفي يفرض عليهم جزءا من محصولهم السنوي ومبالغ مالية ليكون لهم حماية من بطش رجال الداخلية.. وكان يعطي جزءا من هذه المحاصيل والأموال كهدايا لمأمور المركز وضباطه.. والجزء الأكبر يتبقي عنده ينفق منه علي نفسه وعلي ولائمه التي يقوم بها مجاملة لمن يساعدونه علي فرض نفوذه ولحاشيته من أهل القرية الذين يملأون القرية أحاديثا وضجيجا عن نفوذه ومكرماته ووصوله إلي أعلي المعارف والمستويات الممكنة وقدرته إن أراد علي أذي أي إنسان أيا كان.. أو دفع الأذي عنه أيا كان نوعه وأيا كان عدوه.. للدرجة التي جعلت من حاشيته قوة يخشاها أهل القرية.. فأصبحوا يمارسون عليهم نفس ما يمارسه لطفي وخصوصا( هلال) قائد الحاشية وكاتم سره وناقل أحداث القرية وكل ما يجري بها للطفي.. فقد كان يقدم تقريرا مفصلا عن كل ما يحدث في القرية لحظة بلحظة... ومن العجيب أن لطفي وأولاده كانوا يعاملون أهل القرية بغطرسة واستعلاء كمعاملة العبيد وأهل القرية يتلذذون بتلك المعاملة.. فكان لايستطيع أحد الكلام في مجلسه.. الجميع ينصت له إذا تحدث... وكانت جميع أحاديثه عن صولات وجولات له.. كيف أنقذ فلان من السجن واللصوص. كيف تمكن من فض قضية ثأر بين عائلتين في قرية من القري.. وكيف دخل علي المسئول بكل جرأة وهاجمه وضرب بكل قوة علي مكتبه لتنفيذ أحد مطالبه. وتكون جميع أحاديثه علي تلك الشاكلة ويردد حاشيته بقيادة هلال وراءه عبارات تأييد وإعجاب من نوعية.. ياسلام عليك.. الله علي حكمتك.. ومين غيرك يقدر يحل أي مشكلة.. صحيح أنت سيد البلد.. ولا يملك باقي الحاضرين إلا الإنصات في انبهار بشخصه.. والأعجب من ذلك أنه أصبح رمزا للكرم والجود والسخاء رغم أنه يعيش متطفلا علي عرق الفقراء.. وأصبح رمزا للعدل ونصيرا للمظلومين رغم أنه نصير الظالمين... فكم من ظلم وقع تحت عينيه ولكنه يتغاضي عنه.. وكم من أخ ظلم أخوته وجار عليهم بمباركة وتأييد من لطفي لمجرد أنه من أتباعه أو أن لطفي سيستفيد منه ماديا.. وأصبح رمزا للصلاح والتقوي رغم أن كل ما يربطه بالدين والمساجد هو الجزء الأخير من خطبة الجمعة التي يأتي إليها متأخرا فتنشق له الصفوف حتي يصل إلي مكانه المخصص, في الصف الأول.. وأصبحت جميع النزاعات والمشاجرات لاتحل إلا بواسطة لطفي وبطريقة غاية في الطرافة.. يدفع المخطيء مبلغا من المال للطفي كتأديب له.. ويضيفهما علي أحسن ما يكون ويزعم أن هذا المبلغ سيذهب إلي أعمال خير.. وبعد الجلسة يخرج الطرفان من عنده في منتهي الرضا.. المظلوم لأن الظالم وقعت عليه خسارة.. والظالم لأن أمواله لن يستفيد منها المظلوم وسترد له بحسنات..!! وفي أغلب النزاعات كانت تنتهي بحرفية فائقة من لطفي بأن يكون الخطأ من الطرفين فيدفع كل منهما مبلغا يحدده لطفي كتأديب لهما وبعد حسن الضيافة يخرجان أيضا في منتهي الرضا.. وكانت نقطة الخلاف بيني وبين كمال كبيرة.. كان يري أن( سيده) لطفي( كما كان يفتخر بذلك).... هو سيد البلد كلها لأنهم ينعمون بالأمن من خلاله وهو الحامي لهم من أي ظلم يقع عليهم وهو بما له من نفوذ يستطيع أن يرد مظالمهم... وكنت أري أنه أكبر مظلمة لهم.. فهو شخص طفيلي استغل بساطة أهل القرية ونهب أموالهم تحت مزاعم وهمية.. فهم بسطاء ليست لهم عداوات ولا صراعات مع أحد.. كل مشاكلهم تنحصر في رغيف العيش الذي يعانون يومهم في شقاء من أجله.. وينامون الليل من طول شقائهم في النهار وفي النهاية يقاسمهم لطفي شقاءهم... وأكثر ما كان يشعل نار الغضب عندي هو نظرة الاستعلاء التي يعامل لطفي وأولاده بها أهل القرية وخصوصا ابنته الصغري( مني) التي كانت تتباري في إهانة جميع أهل القرية رجالا ونساء وتكيل لهم ألفاظا خارجة وصفعات دون أن يسمها أحد بأي شيء لأنها( آخر العنقود) و( دلوعة) لطفي.. فيقابلون إهاناتها بابتسامات مستسلمة.. وكانت جميع نساء وبنات أهل القري غير مسموح لهن بركوب أي شيء إلا مني.. فقد كان لها دراجة خاصة تركبها وتتحرك بها دون أي قيد داخل القرية وحتي في حقولها.. وفي أحد الأيام عند عودتنا من المدرسة كانت أم كمال تسير أمامنا في الطريق وتحمل فوق رأسها( ماجور) العجين الذي ستذهب به إلي( الخبيز).. وفي هذه الأثناء جاءتها مني مسرعة من الخلف وصدمتها بقوة فوقعت بالماجور علي الأرض وتحطم واختلط العجين بالتراب.. فصرخت من شدة الألم بكل قوة مرددة بعض الدعاء علي من صدمها( وهي لم تر مني) وأتلف العجين وحطم الماجور وسبب لها خسارة مادية كبيرة.. وما كان من مني إلا أن اتجهت لها في كبرياء قائلة.. انتي بتشتميني يا فلاحة يا حقيرة.. وقبل أن ترد بأي كلمة رفعت مني يدها وصفعت أم كمال علي وجهها صفعة هائلة.. ولما رأي كمال الموقف اندفع بسرعة للدفاع عن أمه فنال صفعة أخري من مني بالإضافة إلي بصقة ودفعة من أقذر الشتائم.. وأصبحت مني تتناوب علي صفعهما.. وتجمهر المارة والجيران ولم تفلح محاولات أي منهم في الدفاع عن كمال وأمه.. بل كان مصير كل من يقترب منهما أن ينال نصيبه من الإهانة والصفعات والبصق.. فابتعد الجميع عنهم واكتفوا بالمشاهدة في استياء مما تقوم به مني.. وزادت مني من صفعاتها لكمال وأمه وأصبح الوحيد الذي يمكنه أن ينقذهما من مني هو لطفي فأرسلوا في طلبه حيث أن بيته كان قريبا منهم.. وتعجلوا وصوله وتعلق بصرهم بالطريق الذي سيأتي منه.. وما ان وصل لطفي للمكان وترتسم علي وجهه علامات الغضب حتي انفتحت الدائرة الملتفة حول المعركة وتعلق بصر الجميع بلطفي وما سيفعله لإنهاء هذه المعركة هل سيرد ابنته عن تهورها ويرد كرامة كمال وأمه التي أهدرتها مني ولو بكلمة إرضاء لكمال وأمه أو كلمة عتاب لإبنته.. وما إن وصل إليهما حتي توقفت مني عن صفعاتها ولم يتوقف لسانها عن الشتائم.. واتجه لطفي إلي أم كمال وصفعها بقوة أوقعتها علي الأرض ثم استدار إلي كمال فصفعه بأخري أجلسته بجانب أمه وصاح في غضب بعد أن احتضن مني بين يديه.. يا ولاد الكلب.. أنتو نسيتوا نفسكم.. مش عارفين دي بنت مين؟ وما كان من الحاضرين إلا أن اقتربوا من لطفي متوسلين اليه ألا يغضب.. وأن يعفو عن كمال وأمه. وأخرجوا لهما أريكة من أحد البيوت وأجلسوهما عليها.. وانقسم الطريق إلي مشهدين.. لطفي وابنته يجلسان علي الأريكة والجميع من حولهما يعملون كخلية نحل ليهدئون من غضبهما... فتجد من يحضر لهما( القلة) ليشربا الماء البارد عسي أن يذهب عنهما الغضب.. والأخر يأتي بصينية وعليها كوبان فقط من الشاي.. وآخر ينظف المكان من حولهما.. وآخرون يتوسلون إليه بألا يغضب.. وفي المشهد الثاني كمال وأمه يجلسان وحدهما يبكيان ويستندان إلي حائط يخبئان وجهيهما بين أيديهما.. ولا يجدان من يواسي عنهما بكاءهما.. تركت المكان وأنا انتفض من الغضب وازداد بغضي واحتقاري للطفي.. وفكرت أن أنقض عليه وآخذ ثأر صديقي وأمه المسكينة ولكن منعتني أشياء كثيرة.. من أهمها العادات والتقاليد الريفية التي لا تعطي الصغير أي حق في التعبير عن رأيه مهما تعرض له في مواجهة الكبار.. انصرفت من المكان ولم تنصرف صورة كمال وأمه وهما يبكيان من ذاكرتي. وما لبثت ان انتابتني سعادة في المساء بانتصاري علي كمال فمن المؤكد أنه سيقتنع أني كنت علي حق في تقييمي لشخصية لطفي.. ليس ذلك فقط فهو سيكون سندي في الدعوة للإنقلاب عليه.. سنقوم بتوعية الناس بأنه ليس إلا مجرد لص حقير.. سرق عرقهم تحت مزاعم وهمية.. وسنبدأ بزملائنا وطلاب المدارس.. سنكون النواة الحقيقية لإقامة العدل في القرية.. وبالطبع سأكون زعيمهم والمتحدث باسمهم وحلمت بالزعيم الذي طالما درسنا كلماته الخالدة في كتاب التاريخ حينما أطلقها لخديوي مصر المستبد.. (متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).. حلمت أن أتقمص دوره وأقول تلك الكلمات للطفي وكلمات أشد منها ولكن يجب أن يكون ورائي جمع من القرية.. وسيكون أولهم بالطبع كمال.. سأحول ثورة غضبه إلي كراهية للطفي.. وذهبت علي الفور لبيت كمال.. فكانت المفاجأة أن قابلني بسعادة عجيبة لم أجدها عليه من قبل ولما سألته لم يرد.. بل أتي بصينية فيها قطع من المكرونة قال ان اسمها( باشاميلا) ولما سألته.. إيه الحكاية.. رد بفرحة عارمة.. أنا رحت انا وامي بعد ما هلال اتوسط لنا الليلة عند سيدي لطفي واعتذرنا له وللست مني.. وهما من إنسانيتهم قبلوا اعتذارنا.. ومن كرمهم ادونا الباشاميلا اللي انت كلت منها.. مش كدا وبس.. سيدي لطفي ادي امي ماجور جديد ودقيق بدل اللي وقع في التراب.. بذمتك فيه انسانية ولا كرم بعد كدا..؟ صحيح هوا سيد البلد.. وبدأ كمال يشرح لي في محاسن ومميزات لطفي وأفضاله علي جميع أهل القرية.. والأكثر من ذلك انه بدأ يهاجمني ويطلب مني أن أغير من انطباعي عنه ونظرتي له..وبعد حسرتي وخيبة أملي خرجت من تقمص دور الزعيم الذي صرخ في الخديوي.. لأبحث عن زعيم آخر يمكن أن يكون له تأثير يفوق تأثير الباشاميلا..!! ولكن وجدتني في النهاية أتقمص شخصية الزعيم الذي أصابه اليأس والمرض من عدم قدرته علي إحداث تغيير.. فقلت.. مفيش فايدة...!! عاطف الشاذلي