يضم كتاب مقتنيات وسط البلد الصادر أخيرا عن دار الشروق للروائي مكاوي سعيد بورتريهات لواحد وأربعين رجلا وامرأة,اختار الكاتب أن يضمها معا باعتبارها مقتنيات لايجب التفريط فيها علي مر الأزمان من ناحية, وتشكل معا روح وجوهر تلك المنطقة التي عشقها الكاتب وأخلص لها من ناحية أخري. كتب مكاوي عن نفسه في حقيقة الأمر, فهؤلاء الرجال والنساء عشاق كلهم مهاجير علي حد تعبير عمنا الراحل صلاح جاهين في قصيدته الشهيرة ليسوا محبطين أو مهزومين بل قاوموا جميعا حتي النهاية, حتي لو تغلب علي بعضهم الجنون, أو فروا خارج المكان, أو تركوا المكان والزمان معا وسكنوا في الأعالي. مقتنيات وسط البلد هو كتاب عمر مكاوي سعيد, وحسبما قال لي, فقد كان يتمني أن ينتهي منه قبل روايته تغريدة البجعة وأغلب الظن أنه ظل يفكر فيه ويكتبه داخل عقله, ودون أن يخط منه حرفا, علي مدي سنوات وسنوات. هذا كتاب آسر سيبقي في الذاكرة طويلا بسبب المحبة التي لم يستطع الكاتب اخفاءها لهؤلاء المجانين من الكتاب والفنانين والمدعين والكذابين والذعر والحرافيش,اولئك الراحلين والذين مازالوا بيننا, سواء ذكر الكاتب اسماءهم الحقيقية, أو اسماءهم المستعارة. لايملك الكاتب لغة فنية رشيقة, تلغرافية عارية من الحواشي والزوائد الي حد الصرامة,لايملك هذه اللغة فقط, بل يملك أيضا وقبل كل شيء محبة الي حد الهيام بهؤلاء الرجال والنساء الذين اختار أن يكتب عنهم بورتريهات متقشفة للغاية, إلا أنها تحيط وتحتضن شخصياتها بقوة والي حد الألم والارتجاف. وبقدر ماعبر الكاتب عن توحش منطقة وسط البلد وتدهورها الآن بل وازاحتها للمقاهي والاماكن الحميمة لصالح محلات الأحذية ومعارض السيارات, بقدر ماكان أبطاله ودعاء حتي لو اتهموا بجرائم قتل انهم نبلاء حقيقيون وأغلبهم لم يبلغ حد الكفاف حتي الآن بورتريهات مكاوي عن أشخاص حقيقيين عرفهم وعرفناهم نحن أصدقاؤه, حتي لو غير أسماء بعضهن وبعضهم فالسمراء مثلا والتي يبدأ بها ألبومه بطشت بها الدنيا الجديدة التي نعيشها وهي المنتمية لأسرة يسارية كان لها دور في ثورة يوليو, لكنها انتهت الي الجنون لاترتدي غير بعض قطع الخيش الذي قذارته أخف قليلا من قذارة جسدها..تنام أسفل الكباري وأمام المحال..تسير ببطء وهدوء وهي تأكل السيجارة بفمها وتحدث نفسها في مونولوج داخلي طويل غير مفهوم. ومناضل الكابتشينو انتقل بخفة الفراشة المرفرفة من الدفاع عن أرضنا ومعتقداتنا ومقدساتنا العربية ضد العدو الصهيوني الغاشم حتي الموت الي أن أصبح المتحدث الرسمي والوكيل المعتمد للصلح مع اسرائيل أما الغريب الأطوار مهند فكان فنانا لايشق له غبار وسبح ضد التيار في كل شئ وأمسي مجنونا وواثقا في نفسه الي حد الهوس حتي تمكن منه المرض العضال في اسبوعين وقضي عليه..هل عجزت دفاعاته عن حمايته, أم اختار أن ينسحب الي عالم آخر مواز بقدر موهبته وابداعه؟!. للقارئ أن يفتح متحف المقتنيات ويختار أي لوحة مثلما فعل كاتب هذه السطور بعشوائية شديدة ليكتشف أن كل بورتريه يشكل رحلة طويلة وتحولات عاصفة تكاد تكون تاريخية, والبورتريهات جميعها تشكل وثيقة فنية وفكرية نادرة لنحو ثلاثة عقود, أما الكاتب فلايروي فقط, هو مشارك ونشط جدا, وكاد يدفع حياته ثمنا لنشاطه في بورتريه كائنات من عالم آخر علي سبيل المثال! ومن بين النبلاء الذين اسمهم الكاتب بحنان وحساسية شكري وهو واحد من الحرافيش ولاعلاقة له بالأدب والفن ووجع الدماغ لكنه محبوب لكل المقاهي التي نجلس عليها,كما كتب مكاوي مضيفا أنه مهذب جدا بغير افتعال..أول من ينهض من علي كرسيه إذا ماقدم أحد إلي المنضدة نفسها وفوق هذا هو وحيد تماما في هذه الحياة لم يبق له إلا مكتبته المليئة بكتب أصدقائه ودواوينهم وماكتب عنهم والحوارات التي تمت معهم, نبلاء الكاتب كثيرون منهم الراحل المجنون أسامة الفيل الذي أحب أصدقاءه وأحبوه, فسامرهم ونادمهم وتفاني في خدمتهم حتي أهلكه الشراب وافني بدنه وروحه, وبدا وكأنه يسير علي قدميه في الدنيا وبرأس غائب في السماء أسامة الذي عرفته الحركة الطلابية قائدا لمظاهرات السبعينيات في الجامعة آمن بالثورة الي حد الجنون, وعندما سافر الي ماكان يعرف بالاتحاد السوفيتي فوجيء بأن الحلم الذي ظل مخلصا له لم يكن سوي سراب, وانتهي أسامة الضخم القوي الذي كان أصدقاؤه ينادونه أسامة الفيل وأسامة سيد قشطة من فرط عملقته,أنهكه المرض وجعله يبدو وكهيكل عظمي كلما احتجز بمستشفي غادره سريعا فارا بنفسه وجري الي المقهي وفي كل مستشفي احتجز به كان ماهرا في اخفاء زجاجات البراندي و لفافات المخدرات عن أعين الممرضات حتي مات في ذروة سنوات عمره. ومن بين فضائل نبيل آخر هو محمد هريدي أن الكاتب طلب رأيه بعد أن قرأ عليه البورتريه بعد أن غير اسمه, لكن هريدي أصر علي أن ينشربإسمه الحقيقي محمد هريدي صاحب المخ ع الزيرو وفي الوقت نفسه بكر العواطف جدا وقلبه قلب طفل ودموعه قريبة ولكنه يخفي كل ذلك خلف جثمانه الضخم.. يعاكس بفجاجة ولا يبالي بكم السباب والشتائم التي تنهال علي رأسه.. يضع دائما جواز سفره في جيبه الخلفي( الجواز الذي لم يسافر به الي أي بلد قط) ويجلس بالساعات علي المقاهي والبارات.. وهو في الوقت نفسه أيضا.. لم يحدث أن استقر بعمل لأكثر من شهرين باستثناء بدايات حياته العملية.. يستمتع بإهدار كل فرص الربح والنجاح والتخلي عن الأعمال ذات العوائد المجزية بل انه نشر وطبع وساهم في طباعة أكثر الكتب مبيعا وإثارة للجدل والخلاف في السنوات الأخيرة.. لكنه كالعادة لم يربح منها شيئا وبحماقة غير عادية ومتكررة كان يتخلص منها بمجرد طبعها. أود أن أؤكد للقاريء أنني لم أختر هذا البورتريه أو ذاك لأورده هنا كأمثلة, بل وبكل عشوائية كنت أفتح أي صفحة فيخطفني البورتريه, لأن بشر مكاوي بالغو الجنون والجمال والحنان والعبقرية, يستحقون أن يكونوا مقتنيات لايبلوها الزمن, مثل الراحل الجميل سوريال عبد الملك, وأمد الله في عمر الكاتب الزعيم سعد الدين حسن والمستشار الراحل مصطفي بك عبد العزيز وصانع البهجة نديم ميشيل العضو رقم واحد في كل الجمعيات السينمائية وموسوعة منطقة وسط البلد. ينزل إلي المقهي بصحبة كثيرين.. ويجلس حول منضدة كبيرة وحوله محبون ودائما يمد يد المساعدة للآخرين.. ويحضر لهم الاصدارات الجديدة من الكتب بعد أن يشتريها من ماله.. ويضيف مكاوي: اذا رأيته وحيدا علي المقهي فهو في انتظار شخص, أويستريح قليلا ثم سيصعد إلي بيته ليلتقي بالأصدقاء.. يستقبلك بابتسامة, ونظرة عينيه تتوسل إليك كي تصعد معه.. يشد علي يدك ويدعوك بمحبة.. وتعتذر.. يتكئ علي عكازه ويسرع في خطواته.. هذا هو.. مثلا.. صانع البهجة نديم ميشيل. ولأن مكاوي فنان مقتدر حقا, لم يكتف بواحد وأربعين بورتريها, بل اضاف إلي كتاب البشر, كتابا آخر هو كتاب المكان الذي يضم دليلا خاصا لمنطقة وسط البلد بشوارعها وميادينها وأسواقها ومقاهيها وفنادقها ومطاعمها وكباريهاتها وكبار؟؟, والحقيقة أن كتاب المكان يشكل ركنا ركينا من ألبوم مكاوي لتوثيق وتدقيق وتثبيت الذعر والحرافيش والمجانين والنبلاء في هذه اللحظة تحديدا وقبل أن يغيبوا ويغيب زمانهم. بقي أن أعبر عن اعجابي بلوحات وغلاف الفنان الشاب عمرو الكفراوي الذي رسم ما يكاد يكون نصا موازيا سواء في البورتريهات أو لوحاته الجريئة وخطوطه الحاسمة المفاجئة في كتاب المكان, وإذا تذكر القاريء أغلفته وتصميماته العديدة السابقة لعدد كبير من الكتب, فنحن اذن أمام فنان سيواصل جرأته وجسارته ليضيف الكثير.