بين الأماكن والناس تولد الحكايات ، وتروي الذكريات ويكتب التاريخ عبر صفحات كتاب أو في وثيقة أو ملف قديم ساكن الأدراج في انتظار كاتب مغرم بالشوارع والحارات والوجوه المهمشة التي ربما تولد وتموت دون أن يشعر بها احد ، لكن في النهاية هؤلاء هم البشر الحقيقيون صانعو التاريخ دون أن يتكلموا أو يبوحوا بأسرارهم! وتمتلئ الصفحات بهم وهم الغائبون الحاضرون من خلال كتاب جديد صدر عن دار الشروق تحت عنوان "مقتنيات وسط البلد" للكاتب المبدع مكاوي سعيد. انه كاتب متمكن من أدواته يقنعك ببساطة أسلوبه وعمق أفكاره انه لم يبرح شوارع وأزقة وسط البلد منذ ولادته حتي لحظة كتابته لهذا العمل الإبداعي بكل المقاييس، فهو واحد من الأدباء الذين أدمنوا الوجوه والصعلكة في الشوارع منذ مفاجأته لنا بروايته " تغريدة البجعة. التي وصل بها إلي القائمة النهائية لجائزة البوكر العربية عام 2007 ثم يأتي في هذه الأيام ويحمل لنا كنزا معرفيا أطلق عليه مقتنيات وسط البلد الذي يحتوي علي أكثر من إحدي وأربعين شخصية معظمهم من الوجوه المهمشة التي ليس لها وجود في الساحة الثقافية ولكن وجودهم يستمد من حكاياتهم موضوع الكتاب ، فهذا الكتاب ذو نكهة خاصة، يحمل معه وجهين مختلفين يكمل كل منهما الآخر، حيث ينتقي "مكاوي سعيد" - بعين الروائي - وجوهًا وأماكن من وسط القاهرة، من بين جنبات تلك الشوارع المعدودة التي تَشكَّل فيها جزء هام من تاريخ مصر الحديثة؛ حيث كانت ولا تزال ملتقي المثقفين والفنانين المصريين، يمارسون فيها الفن والسياسة والكلام والصعلكة، من »وسط البلد« حيث تتداخل حياة هؤلاء المثقفين وما لهم من طموحات لا محدودة وجنون مدهش، بحياة ملايين المارة اليوميين من جميع أنحاء مصر والعالم. بعض هذه الشخصيات كان موهوبًا وفضل الصعلكة علي الموهبة، وبعضهم تكسرت طموحاته بيده أو بيد غيره فانطوي علي نفسه أو أصابه الجنون أو مات أو ابتعد، وبعضهم آثر السكينة وظل يغرف من حكمة الحياة الصافية. وفي الناحية الأخري يحكي عن مقاهٍ ومطاعم وبارات ومنتديات ثقافية نشطت في »وسط البلد« في منتصف السبعينيات وأوائل الثمانينيات، تلك الأماكن التي منها لا يزال قائمًا يحتفظ ببريقه، ومنها ما انسحب تمامًا من الصورة بعد أن أزاحته محلات الأحذية أو الوجبات السريعة، ومنها ما تدهور حاله، وإن ظل محتفظًا باسمه ومكانه.. هنا يرصد »مكاوي سعيد« تاريخ هذه الأماكن، والحكايات التي دارت وتدور فيها وحولها. سنقرأ عن جروبي، وريش، والنادي اليوناني، وأسترا، وعلي بابا، وقهوة الحرية، وستلا، وإستوريل.. والكثير غيرها كما أنجز الفنان عمرو الكفراوي عددًا من اللوحات الموازية لتلك النصوص والتي عبرت كثيرًا عن روح هذا العالم الثري الذي أمتعنا به »مكاوي سعيد« كتاب »مقتنيات وسط البلد« هو مرجع تاريخي يرتدي ثوب الأدب بكل أناقة وشياكة سكان وسط البلد أيام زمان، انه يحمل عبق التاريخ الذي لم يبق منه إلا الذكري في كتاب.