خشيت أن يكون حديثي في المقال الماضي عن' المجتمع العشوائي والظاهرة الليفاوية' تركيزا مفرطا علي الجوانب السلبية في حياتنا, قد يؤدي إلي تجاهل المبادرات الخلاقة لعديد من المثقفين والمؤسسات الرائدة في مختلف المجالات. لذلك وحتي تكتمل الصورة لابد من تقديم نماذج من الإبداع المصري, حتي يستقر في أذهاننا أن هناك مجموعات من المبدعين المصريين في مختلف مجالات العلم والفن والأدب, يقدمون إبداعا خالصا يشهد بفهمهم العميق للتحولات الأساسية في المجتمع العالمي من ناحية, وطبيعة المرحلة التي يمر بها المجتمع المصري في الوقت الراهن. كما أنه يمكن رصد عديد من المشروعات الرائدة في مجالات التنمية المتعددة تجمع بين الفهم العميق للرؤي العالمية, والإدراك الموضوعي للظروف المحلية. إن سخطنا علي الجوانب السلبية في الممارسة السياسية والاجتماعية الراهنة لا ينبغي أن يجعلنا نصرف النظر عن التيار الإيجابي في الفكر المصري الحديث والمعاصر. وهذا التيار الإيجابي الذي يتبني المنظور النقدي في تناوله للمشكلات العالمية والعربية والمصرية له جذور ممتدة ترجع إلي النهضة العربية الأولي, والتي كان رائدها الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي, الذي قدم لنا من منظور نقدي الحضارة الأوروبية الحديثة من ناحية, وقام بالتحليل الدقيق لمشكلات المجتمع المصري من ناحية أخري مبشرا بقيم جديدة, وداعيا لتحديث المجتمع. ويمكن القول إن مصر شهدت وخصوصا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام1945 زخما فكريا عميقا, ساهمت في صنعة التيارات الماركسية والليبرالية والإسلامية, التي نشط المثقفون الذين ينتمون إليها في التعبير عن رؤاهم من أجل حل المشكلة الوطنية والتي تتمثل في إجلاء الاختلال الإنجليزي, وحل المشكلة الاجتماعية والتي تبرز في الفجوة الطبقية الكبري بين الأغنياء والفقراء في ريف مصر وحضرها. غير أنه بالإضافة إلي ذلك تصدي هؤلاء المثقفون كل من وجهة نظره الإيديولوجية إلي المشكلة الثقافية الكبري وهي: أي وجهة ينبغي علي مصر أن تتجهها, من الناحية الإيديولوجية؟ وهل نسعي لتطبيق الليبرالية لتصبح هي الأيديولوجية السائدة, أم ندعو لتطبيق الماركسية, أم ننادي بتطبيق رؤية إسلامية خاصة؟ لقد دار الصراع بين ممثلي هذه التيارات الثلاثة واتخذ صورا شتي من بينها إصدار كتب رائدة, أو مجلات مهمة تدعو لهذا التيار أو ذاك, أو خوض الصراع السياسي بين الأحزاب السياسية المختلفة, والذي اصطدم بالدولة ذاتها في فترات متعددة حين احتدم الخلاف حول كيف نحرر الوطن من الاحتلال الإنجليزي بالمفاوضة أو بالمقاومة, وكيف نحدث المجتمع هل بالإصلاح التدريجي أو بالثورة الشاملة التي لا تبقي ولا تذر. لقد تميزت الفترة من عام1945 حتي عام1952 تاريخ قيام ثورة يوليو بصراع سياسي بالغ الضراوة بين الأحزاب السياسية المتصارعة علي الحكم في ظل حراب الإنجليز, وصراع إيديولوجي بالغ العنف بين التيارات الفكرية المتنافسة, التي كانت تسعي لكسب عقول النخبة المصرية والجماهير معا حتي تتبني إيديولوجية معينة, يري أصحابها أنها هي الأجدر بقيادة مسيرة النضال الوطني والتحرير الاجتماعي. وفي خضم هذه المعارك السياسية والفكرية الكبري أصدر الكاتب المصري المعروف' أحمد رشدي صالح الذي أصبح فيما بعد من رواد الأدب الشعبي مجلة' الفجر الجديد' وذلك في الفترة من عام1945 حتي1946, وصدر عددها الأول في16 ماو عام1945 لتعبر عن أحد اتجاهات الفكر الماركسي المصري, وقد تولي سكرتارية تحريرها مناضل مصري معروف ومثقف كبير هو الأستاذ أبو سيف يوسف. وهذه المجلة لعبت دورا أساسيا في التنوير المصري, واستطاعت أن تجذب إليها مجموعة متميزة من المثقفين المصريين الشباب في ميادين السياسة والثقافة والأدب والعلم, أصبحوا من بعد نجوما ساطعة في سماء الفكر المصري. وقد قام مركز البحوث العربية والافريقية الذي يديره الصديق الأستاذ حلمي شعراوي بعمل جليل هو إعادة طبع أعداد المجلة في مجلدين, وهي تسجل في الواقع فصلا بالغ الأهمية من فصول الفكر المصري الحديث. وقد وجه لي الأستاذ شعراوي خطابا شرح فيه تاريخ المجلة, وأهداني مشكورا جزءين يضمان كل أعداد المجلة منذ نشأتها حتي توقفها, وهي في الواقع وثيقة فكرية نادرة تكشف عن إبداعات عدد من المثقفين الماركسيين المصريين في فترة تحول مهمة للمجتمع المصري. ويقرر حلمي شعراوي أنه صدر من المجلة اثنان وأربعون عددا حوالي900 صفحة, وكان تأثيرها كما يقرر كبيرا رغم قصر فترة وجودها علي الساحة 14 شهرا فقط حيث تم إلغاء ترخيصها في11 يوليو1946 بعد قرار إسماعيل صدقي باشا بغلق المنابر العلنية لليسار المصري. ويضيف أن معظم الشخصيات المعروفة كتبت فيها. ومنهم أحمد رشدي صالح رئيس تحريرها وصادق سعد وعلي الراعي وأبو سيف يوسف ويوسف درويش ونعمان عاشور وعبد القادر التلمساني وعبد القادر القط وسعد مكاوي ومحمد خليل قاسم وأنور عبد الملك ولطيفة الزيات وإبراهيم سعد الدين وعبد الرحمن الشرقاوي. والمتأمل في كل اسم من هذه الأسماء, سرعان ما يدرك أن كل واحد منهم أصبح من بعد نجما لامعا في تخصصه, لقد شهدت المجلة البدايات الأولي للشاعر عبد الرحمن الشرقاوي( المحامي) كما كان يصف نفسه, وكتابات علي الراعي في شبابه الذي أصبح من بعد الناقد الأدبي الكبير, وعبد القادر القط أستاذ الأدب المرموق والشاعر الكبير, وسعد مكاوي الذي أصبح روائيا مرموقا, ولطيفة الزيات أستاذة الأدب الإنجليزي والروائية الشهيرة, وإبراهيم سعد الدين الذي أصبح من بعد من رواد علم الإدارة والاقتصاد في مصر, وأنور عبد الملك المفكر المرموق الذي أصبح من بعد مديرا للبحث العلمي في المركز القومي للبحوث العلمية في فرنسا, بالإضافة إلي يوسف درويش المحامي الذي كرس حياته للدفاع عن العمال. كوكبة من أبرز المثقفين المصريين الذين شكلوا بإنتاجهم الفكري المبدع عقول عشرات الآلاف من شباب مصر من الأربعينيات حتي الوقت الراهن, لأن إنتاجهم مازال حيا ينبض بالأصالة ويتميز بالتفرد. أخرج مركز البحوث العربية والإفريقية أعداد المجلة في جزءين كبيرين, وتولي المؤرخ المعروف عاصم الدسوقي مهمة تقديم المجلة ووضعها في سياقها التاريخي, كما قامت حنان رمضان بوضع كشاف تحليلي بالغ القيمة لكل أعداد المجلة. وقد لفت نظري أن صندوق التنمية الثقافية حين كان يرأسه الصديق الدكتور أحمد مجاهد وهو من هيئات وزارة الثقافة, وكذلك المهندس محمد ابو سعدة الرئيس الحالي قام بمبادرة للمساعدة المادية والمعنوية لدعم صدور المجلة, أو بعبارة أدق إعادة طبع المجلة بجزءيها تقديرا لأهمية إسهامها في الثقافة المصرية المعاصرة. ولو تصفحنا أوراق العدد الأول من المجلة الصادر في16 مايو1945 لوجدنا قصيدة للشاعر عبد الرحمن الشرقاوي تتصدره بعنوان' الفجر الجديد' يبدؤها هكذا' أيها الضارب في الليل.. هنا الفجر الجديد. أيها الحائر في اليم.. هنا البر السعيد'. كان الشرقاوي يجرب مبكرا أدواته الشعرية قبل أن يبدع قصديته الشهيرة التي أثرت في الملايين وكانت بداية تقديمه الحقيقي للقراء وهي قصيدة' من أب مصري إلي الرئيس ترومان'. وكانت في الواقع تجديدا خالصا في الشكل والمضمون. ونحن نعرف بالطبع المسيرة الحافلة للشرقاوي من بعد, وإبداعاته الرائعة في المسرح الشعري. أما افتتاحية العدد فقد حررها أحمد رشدي صالح وكان موضوعها' مهمة الكاتب'. وهو يقدم فيها رؤية بصيرة بالمهام التي يقع علي كاهل الكاتب أن يقوم بها لتطوير مجتمعه في ضوء تحقيق الديموقراطية والعدالة الاجتماعية معا. أليست هذه الأهداف هي التي نناضل لتحقيقها الآن؟ ونجد مقالة لأمين تكلا موضوعها' آراء عن التعليم في مصر' وهي بذاتها تشهد علي أن مشكلة التعليم في مصر مزمنة إن صح التعبير! ونجد مقالة مهمة لزكي هاشم الذي أصبح من بعد محاميا شهيرا عن جامعة الأمم العربية', ونجد لسعد مكاوي المحامي مقالا مهما عن' مصر والسياسة والصناعة' مما يدل علي إدراك مبكر بأهمية تصنيع مصر, وهي قضية مثارة الآن بشدة في ضوء غياب استراتيجية للتصنيع في مصر تحدد الأولويات وتشير إلي المجالات الرائدة التي لابد لمصر أن تدخل فيها في سياق المنافسة العالمية. ومن الطريف أن نجد في العدد الأول قصيدة لعز الدين فودة عنوانها' أنا والأرض' وهو الذي أصبح من بعد أستاذ القانون الدولي المرموق. وهناك مقالة لأبو سيف يوسف عن' الفن والطبيعة والمجتمع', ومقالة أخري غير موقعة بعنوان' نظرة في السياسة الدولية'. والواقع أن المطالعة الدقيقة لأعداد مجلة' الفجر الجديد' الرائدة تعطي القارئ المهتم فكرة عن الإسهام التاريخي لتيار من تيارات الفكر الماركسي, تعكس رؤيته للعالم وتشخيصه للأوضاع في المجتمع المصري ودعوته للتغير الاجتماعي الجذري في ضوء مبادئ الاشتراكية. هذه الوعود العظمي لم تستطع الحركات المصرية الإصلاحية والثورية أن تحققها, ومن هنا تأتي أهمية انقلاب23 يوليو1952 بقيادة جمال عبد الناصر والضباط الأحرار, والذي تحول إلي ثورة بحكم تبني قادته لمشروع التغيير الاجتماعي الذي وضعت لبناته الأولي التيارات الليبرالية والاشتراكية والإسلامية.