أمراض نفسية واجتماعية جديدة أصابت مجتمعنا بعد فتح باب الحرية علي مصراعيه والتي حصل عليها الشعب بعد معاناة طويلة من الكبت امتدت لثلاثة عقود في عهد النظام البائد, وبعد ثورة25 يناير المجيدة. التي جاءت بطاقة نور أضاءت الحياة ليخرج الجميع عن صمته, إلا أن الشعب لم يحسن استغلال مساحة الحرية التي حصل عليها لتنتشر هذه الامراض المصاحبة للفوضي مثل الانفلونزا بسرعة هائلة في جسد الشارع المصري الضعيف بسبب الوضع السياسي المتردي الذي نعيشه ليصبح التشكيك في القرارات التي تصدرها الحكومة والشك في تنفيذها مع الاعتراض عليها في أحيان كثيرة سمة الشارع المصري حاليا الذي أصيب بحالة من التخوين وعدم المصداقية والتظاهر علي أتفه الأسباب والدخول في اختلال وجدل غير مبرر في وجهات النظر مع عدم القدرة علي الحوار, كل هذه الصفات تعد من الآثار الجانبية للأمراض التي نسعي لإيجاد علاج منها بعد عرض الحالة علي أساتذة متخصصين في علمي النفس والاجتماع ليشخصوا لنا الحالة وطرق العلاج منها. في البداية تقول الدكتورة سامية حافظ استشاري علم النفس بالمركز القومي للبحوث الجنائية أن المناخ الذي نعيشه الآن يحيطه الشك وفقدان الثقة والمعارضة بنسبة كبيرة بسبب الوضع السياسي غير المستقر لدرجة أن الشخص الذي نثق فيه اليوم نشك فيه في اليوم التالي مباشرة ومن نعطيه الأمان نجده يغدر بنا بعد أن تحولت الحياة إلي صراعات لغياب الأمن والأمان وتفضيل المصالح الشخصية علي المصلحة العامة للبلد. مشيرة إلي أن الشعب بالكامل علي اختلاف مذاهبه وانتماءاته وأعماره يتحدث في السياسة ليل نهار ونظرا لأن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية غير مستقرة بعد الثورة والكلام الذي يقال اليوم نجد عكسه غدا مع وجود صراعات أخري للقفز علي المناصب والاحتجاجات الفئوية جعلت الشعب يعيش في حالة من التوهان أثرت علي سلوكه وأصبح يشكل ويشك في كل شيء. وقالت أننا لانجد من نتحدث معه ويعطينا الاجابات الصحيحة الواضحة وأصبح الشعب يشبه الطفل الصغير الضائع بين أم وأب غير مستقرين ومفتقدين لكل شيء ليشعر الجميع بعدم الأمان في شتي جوانب الحياة. وأن هذه الحالة التي عليها مصر حاليا لن تستمر كثيرا لأن الشعب المصري يتميز بسمات وصفات عجيبة أبهرت العالم أجمع, لأنه من الممكن أن يتفرق ويتجمع بسرعة مذهلة فضلا عن تمتعه بالحب والحنان والتراحم ورغبته في البناء والتنمية والعيش مستقرا. وأضافت أن عودة الثقة من جديد تتطلب أن نبدأ أولا من المنزل بأن يكون الأب قدوة لنجله في مختلف نواحي الحياة وسوف ينعكس ذلك علي المجتمع الذي يعد الأسرة الأكبر ثم علي البلد بالكامل بعد أن يعود الحب من جديد ونرويه بمياه الخوف علي بعضنا البعض و الايبحث كل فرد علي مصلحته حتي لو كانت تتعارض مع مصلحة غيره. ويقول الدكتور عمار علي حسن الباحث في علم الاجتماع السياسي أن الممارسة السياسية في مصر علي مدار ثلاثة عقود منذ تولي الرئيس السابق مقاليد الحكم كان يحكمها الكبت والانغلاق وفجأة انفتح باب حرية علي مصراعية بعد خلعه ولاسيما مع ثورة الاتصالات والمعلومات التي حولت العالم إلي قرية صغيرة وأصبح الانسان يستطيع معرفة الشيء الذي يريده دون عناء. أضاف أن النظام البائد كان يتعامل مع الشعب رغم اختلافه فكريا وايديولوجيا وثقافيا بمنطق الكبت بفرض وجهة نظره السياسية فقط ومن يتكيف معها يمكن أن تستوعبه السلطة ومن يخالفه يدخل في نفق مظلم معه ولذلك ظلت الاحزاب السياسية في جيوب مظلمة لايعرف بعضها البعض وكأن كل منها يعيش في واد بعيدا عن الآخر. وأشار إلي أنه فجأة سطع علي هذه الجيوب المظلمة نور بعد ثورة25 يناير فرأي كل حزب الآخر بوضوح ولكن بتصوراته ومعلوماته القديمة المشوهة, وكان من الطبيعي أن تدخل هذه الأحزاب في صراعات زاد من حدتها الصراع المتأجج للوصول لاعتلاء السلطة حيث أعتقد البعض أن الأرض أصبحت ممهدة للجلوس علي كرسي الرئاسة, في الوقت الذي رأي التيار الديني أن وجود أحد أفراد النظام البائد علي قمة السلطة يعني استمرار حكم الرئيس المخلوع والدخول في كارثة أخري مصر غير مهيأة لها بعد الثورة ولذلك ظهر صراع الديكة لتشهد الساحة السياسية منافسة غير طبيعية للوصول للسلطة. وقال بعد أن وصل التيار الاسلامي للحكم فمن المنتظر أن تهدأ الأوضاع وبخاصة بعد موافقة الشعب علي الدستور والدعوة لإجراء الانتخابات البرلمانية التي ستنشغل بها العديد من الاحزاب وتترك الساحة للحكومة أن تعمل في وضع مستقر نوعا ما. وارجع الدكتور سيد صبحي أستاذ العلاج والصحة النفسية وعميد كلية التربية النوعية الأسبق الظاهرة إلي المناخ العام السيئ الذي ساد الساحة السياسية بعد الثورة وتحولت معارضة الاخرين والاختلاف في وجهات النظر علي شاشات القنوات الفضائية إلي صراع يسعي كل طرف أن يفرض وجهة نظره علي الطرف الآخر بأي شكل وبالمنطق الذي يريده مما ترك ذلك انطباعا في غاية الخطورة لدي أفراد الشعب لتكوين اتجاهات جديدة لم يألفوها من قبل. بعد أن رأوا وشاهدوا الرموز السياسية التي يشار إليها بالبنان وهي تتناحر وتختلف بأساليب ركيكة وطرق غير سوية ويكذب كل واحد منهم الآخر مما افقدهم القدوة وسيطرت عليهم حالات الشك في كل شيء. وقال أن الشعب يعيش حالة من الجوع النفسي الذي يعد بداية الخطر جعلنا نلتهم بعضنا البعض ومن هنا فقدنا الانتماء الذي سيؤدي إلي أن نفقد السيطرة علي جميع الأمور إذا لم نعد بسرعة إلي سيرتنا الأولي والتفكير في مصلحة الوطن. لافتا إلي أننا كنا نعاني من الاضطراب النفسي خلال حكم النظام السابق ولكن أن يتحول إلي جوع فتكون المصيبة أكبر وأعمق أثرا, لأننا عندما لانشعر بالشبع يلتهم كل منا الأخر ويجعلنا في حالة اعترض دائم ونصل إلي حال من العنف والتي نحياها الآن وتعد بداية الخطر الداهم الذي يصعب احتواؤه. وتري الدكتورة سامية قدري أستاذة علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة عين شمس أن الشعب المصري غير ديمقراطي علي الاطلاق وتعد الثقة قيمة من قيم الديمقراطية النبيلة ونظرا لأن الشعب فقد هذه الثقة في ظل النظام البائد ولذلك يغلب عليه الشك في كل شيء بعد أن وجد نفسه يستطيع أن يعبر عن رأيه ويتحدث بحرية بدون قيود وكان ينتظر أن يسمع ويشاهد من يعبر عنه ولكنه فوجئ بأقوال وأفعال تتغير وتتبدل وتختلف من يوم إلي أخر رغم أن الشخص الذي فعل وقال ذلك واحد, وأن هذه الظاهرة أصبحت موجودة علي كل المستويات القيادية في المجتمع سواء داخل الأسرة أو المؤسسات والقيادات المختلفة. وقالت نحن مجتمع لم يدخل بعد في طريق التحول الديمقراطي ونحتاج لوقت طويل حتي نصل إلي ذلك, فالديمقراطية تعني الحيادية التي تعبر عن قيمة من قيم المجتمع الحديث الذي نفتقدها تماما, كما أن عدم وجود الشفافية يؤدي بشكل حتمي إلي فقدان الثقة التي بثها النظام السابق في نفوس الشعب في كل الأنظمة وليس النظام السياسي فقط. أما الدكتورة هالة يسري أستاذة علم الاجتماع فقالت أننا مازلنا نعيش في مراحل الثورة ولذلك فمعالمها لم تظهر بعد لعدم تخطي مراحلها حتي الآن, فالثورة ليست مجرد تغيير نظام ظالم أو إقالة حكومة لم تستطع أن تؤدي دورها المنوط بها تجاه الشعب أو تنظيم مظاهرات تحت أي مسمي ولكنها تقام من أجل أهداف واضحة وصريحة ولابد أن تشهد تطورا في مراحلها المختلفة حتي تصل لمرحلة النضوج النهائية مثلما حدث في ثورة يوليو عام52 والتي أطاحت بالمحتل الانجليزي وفرضت الدولة سلطتها علي قناة السويس بنسبة100% واختفي النظام الاقطاعي. أما ثورة يناير فلم تفعل هذا لعدم وضوح معالمها الأمر الذي جعل المجتمع في حالة من الفوضي والانقسام والاختلاف في أشياء كثيرة. وقالت الدكتورة هالة أيضا أن كل فرد في المجتمع لديه عقيدة ومعتنق يتجه إليه سواء بالسلب أو الايجاب ولكن المشكلة ليست في اعتناق الافكار أو المذاهب ولكن في تكوين الشخصية المصرية شديدة التعقد, لأننا لانحترم أو نسمع آراء بعضنا البعض ولانمتلك ثقافة الاختلاف في الرأي وهذه من أخطر الأمراض التي لحقت بنا بعد الثورة, إلي لافتة إلي أننا لابد أن نحكم العقل من خلال ترك كل واحد يعبر عن رأيه ونستمع له بإصغاء شديد وليس الاستماع بغرض فض المجالس حتي نقول نحن ديمقراطيون.