"الخلاف لا يفسد للود قضية" مقولة أو حكمة غابت عن المجتمع المصري خاصة الشارع السياسي في الأونة الاخيرة نظراً لما تشهده الساحة من اختلاف في وجهات النظر بين الاشخاص أو الاحزاب أو النشطاء وأصبح معني الخلاف في الرأي بمثابة العداء بسبب تمسك كل فريق برأيه وعدم التنازل عنه، رغم أن هذا الإختلاف يعتبر أمراً طبيعياً وصحياً بين الأفراد أو المجموعات، سواء كانت تلك الخلافات بشأن اتجاهات سياسية معينة أو انتماءات لتيارات دينية وحول أسباب الخلاف وحدوده وكيفية الاستفادة منه يقول الدكتور جمال عبدالستار وكيل وزارة الأوقاف لشئون الدعوة ان الخلاف في وجهات النظر أو الاعتقاد أو طريقة التفكير طبيعة بشرية فلم يخلق الله تعالي الناس علي صورة واحدة ولكنه سبحانه وتعالي خلقهم في أشكال متعددة، وصور مختلفة، وكذلك خلقهم بعقول متفاوتة، وهذه نقطة الانطلاق في التعامل مع المخالف، فحينها نحترم المخالف لا نحترمه لمجرد مواءمة سياسية فقط، ولكننا نحترمه احتراما لله أو لفطرته في الخلق ولذلك قال تعالي "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" فقد أقر القرآن الكريم الخلاف المحمود وذم الاختلاف المؤدي إلي التنازع والفشل قال تعالي "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" بل لما حدث خلاف في الحكم في قضية مابين داود وابنه سليمان عليهما السلام عقب القرآن علي خلافهما بقوله "ففهمناها سليمان وكلا أتينا حكما وعلماً" ويضيف د. جمال عبدالستار: أن الحق قد يتعدد وقد تتعدد كذلك صور الوصول اليه مؤكدا أن الخلاف لا يعني العداء، ولا يعني إراقة الدماء واستباحة الاعراض بل وقد يكون الخلاف ايجابيا في بعض الحالات لأنه يتسبب في إثراء الناحية الفكرية والنظرية علاوة علي أن الحق المطلق ليس مع أحد أبداً بعد الرسل فكل الناس بعدهم يخطئون ويصيبون وأن الشر المطلق لا يكون إلا عند الشيطان وكل الناس بعد ذلك فيهم الخير والشر. ويشير الي أن من يريد ان يكون الناس جميعا علي وجهة واحدة أو طريقة واحدة إنما يتحدث عن مستحيل ويتمني ما لم يتحقق حتي للرسل انفسهم مما يستوجب مراعاة الخلاف واحترام المخالف وأن دورنا محصور بنص القرآن في التبليغ وليس في الهداية لقوله تعالي "إن عليك إلا البلاغ قوله لست عليهم بمسيطر" فالتبلغ وبيان وجهة النظر حد لانهاء الخلاف، فلا يوجد إقناع بالقوة ولا بالتسلط غير أن الخلاف يجب أن يكون في إطار المجادلة بالحسني فإن زاد عن ذلك فهو عداء لا يؤدي بحال إلي الاقناع أو إلي الوحدة أو الاستقرار ويوضح د. عبدالستار أن الحق يعرف بعلامات يمكن أن يفرق بها أي شخص بينه وبين الباطل فيعرف الحق بمن تبعه فمتي كان أهل العلم والدين والخلق مع رأي دال علي صحة هذا الرأي، ومتي كان أهل الهوي واللعب وعدم التدين علي رأي دل ذلك علي عدم صحته فالله تعالي يقول "هل يستوي الذين يعلمون والذين يعلمون" كما يستدل علي الحق أو الباطل بتاريخ من يدعو اليه حيث أن تاريخ الانسان يدل علي حاضره بل ويرسم لنا مستقبله فضلا عن أن الحق تعرفه النفوس الطيبة وتطمئن اليه القلوب السليمة والباطل يعرف من لحن القول ومن التلاعب بالالفاظ ومن لي أعناق النصوص. وترجع الدكتورة آمنة نصير أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة الازهر أسباب الخلاف إلي عدم ادراك الجميع حقيقة هذا الاختلاف والذي تعتبره إرادة إلهية لقوله تعالي "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة" ومن ثم فالاختلاف لا غبار عليه لكن الذي لا يعرف أدب الاختلاف هو الذي يغبر علي هذه الحقيقة فلا يوجد أحد يستطيع ان يمتلك الحق والحقيقة مشيرة إلي أن هذه من أعراض الامراض التي أصابت المجتمع الآن مثل التكفير والوصاية والاستبداد وهي قضايا قاتلة للمجتمع وتخشي د. أمنة نصير من خطورة استمرار تلك الخلافات وقتا طويلا قد تستغرقه حتي تزول من نفس المجتمع ولا أحد يهتز له جفن علي خطورة ما يترتب علي هذا الخلاف في هذه المرحلة ولا أحد من العقلاء يتصدر للتخفيف من هذه الفرقة وما يترتب عليها من نتائج وتشير إلي أهمية دور الحاكم في لم الشمل ودرء هذا الانقسام وأن هذا الدور لا يقلل من شأنه ولا يهون قراراته بل علي العكس يزيد من حب الجميع له ويكون كبير العائلة الذي يستوعب الجميع خاصة وأن الانقسام والتشرذم أصبح سمة ويحاول كل فريق حشد الارقام والاعداد محذرة من الآثر السلبي لذاك والمدمر للمجمع بأسره. ويؤكد الشيخ جمال قطب عضو مجمع البحوث الاسلامية الاسبق انه مهما كان الاختلاف بين فريقين فهناك قدر مشترك بينهما و"تلاق في المصالح" ينبغي علي الجميع سواء كانوا أحزابا أو أفرادا مختلفين البحث عن هذا القدر حتي لو كانت الغايات متباعدة فيحسب لصاحب الغاية البعيدة أن يزيد قدراته واتباعه بالتوافق مع صاحب الغايات القريبة المشتركة في الوجه حتي يحقق جزءا كبيرا من مشروعه ويستقطب مؤيدين اكثر ويحقق في الوقت ذاته تقدما ملموسا علي أرض الواقع وهذا قد يدفع باقي الاطراف إلي مرافقته في بقية المسيرة. - ويحذر قطب من خطورة إصرار كل توجه أو كل حزب علي التفرد وعدم التقارب مع الآخرين وتأثير ذلك في المساهمة في تكريس الشتات والتمزيق وهو خطر كبير يؤدي إلي عدم قدر أي طرف علي الانجاز مشيرا إلي أن القدر المشترك بين جميع التوجهات (التلاقي في المصالح) يحرم عقلا وشرعا الاختلاف عليه والتباعد من حوله لأن ذلك سوف يفقد قدرا يمكن انجازه واحرازه وحيث أن التدرج من أفضل وسائل إدارة أزمات الاختلاف. ويؤكد الدكتور رشدي شحاته رئيس قسم الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة حلوان أن طبيعة الاختلاف من القواعد الاساسية في الشريعة الاسلامية ولذلك أمر الله تعالي رسوله الكريم بالأخذ بمبدأ الشوري حيث يقول كل إنسان رأيه بصراحة ووضوح ولنا في الصحابة والفقهاء الأربعة من بعدهم الأسوة الحسنة، فلقد اختلف الصحابة في أخطر واقعتين، الأولي عند وفاة النبي صلي الله عليه وسلم حيث تمسك الانصار وهم أهل المدينة بأن يكون خليفة رسول الله منهم وتمسك المهاجرون أهل مكة بأن يكون الخليفة منهم، وكانت لكل منهما حججه القوية وانتهي الخلاف بترشيح عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما بعد ان قال قولته المشهورة ارتضاه رسول الله لديننا أفلا نرتضيه لدنيانا إشارة إلي أن النبي صلي الله عليه وسلم كان قد أمر بأن يقوم ابوبكر بإمامة المسلمين في الصلاة بدلا منه عندما أشتد عليه المرض وحسم الأمر باختيار ابي بكر. والواقعة الثانية عندما اختلف الصحابة في محاربة المرتدين الذي منعوا الزكاة فأصر ابوبكر علي قتالهم وأصر عمر علي منع القتال كما اختلفوا في كثير من الاحكام في عصرهم. ويضيف د. شحاته بالنسبة للفقهاء الأربعة فنجد أن الامام مالك تلميذ لابي حنيفة النعماني وأسس مذهبا خلاف مذهب أستاذه، ثم أن الامام الشافعي تلميذ للامام مالك وفعل كذلك، كما أن الامام أحمد بن حنبل تلميذ للامام الشافعي. ونجد هنا أدب الخلاف، فمالك يمدح تلميذه الشافعي بعد أن استمع إليه وقال: هلكت أمة ليس محمد بن إدريس يقول، ويرد عليه الشافعي: وكيف لا يكون ذلك وهو تلميذ مالك ونجد الشافعي أمام أحمد بن حنبل يقول أحب الصالحين ولست منهم عسي أنال بهم شفاعة وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سويا في البضاعة فيرد عليه الامام أحمد ابن حنبل: تحب الصالحين وأنت منهم عسي أن ينالوا بك الشفاعة وتكره من تجارته المعاصي حماك الله من هذه البضاعة فهذه الأقوال تدل علي أن الخلاف حقيقة واقعة، ولكن الخلاف الذي لا يؤدي إلي التنازع كما قال أبي حنيفة رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، وقال الامام مالك عند ما وقف أمام قبر الرسول صلي الله عليه وسلم كل يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا المقام. ويشير د. شحاته إلي أن المسائل القطعية الثابتة بالقرآن والسنة لا إختلاف حولها وهي تتصل بالعقائد والعبادات، أما المعاملات وما يتصل بأمور الدنيا فيجوز الاختلاف حولها لقوله صلي الله عليه وسلم. "أنتم أعلم بشئون دنياكم".