حين ندرك أن أول سن لتعرض التلميذ للغة أجنبية في ألمانيا وأيسلندا وإنجلترا وبلغاريا وسلوفينيا وجميعها دول أوروبية متقدمة هو إحدي عشرة سنة بمعدل حصة واحدة في الأسبوع تزاد لحصتين عند سن الخامسة عشرة ونعرف أن الطفل عندنا يبدأ في تعلم لغة أجنبية في سن الرابعة وأن عدد ساعات تدريس اللغة الأجنبية الأولي في الثانوية العامة تساوي عدد ساعات تدريس اللغة العربية نتيقن وقتها أن قضية اللغة القومية في منظومة الدولة وفي منظومة التعليم قضية تنمية أساسية. تلك الدول يتراوح عدد سكانها بين أقل من مليون نسمة وبين اثنين وثمانين مليونا. هذا الوضع هو ديدن جميع الدول المتقدمة مع خلاف في أن بعض تلك الدول لا تعرض أبناؤها لأي لغة أجنبية قبل سن الثانية عشرة وسن الرابعة عشرة في دول أخري. وأشير الي أن الدول المتقدمة جميعها تعلم أبناءها بلغتها القومية من الحضانة وحتي مرحلة الدراسات العليا. ولنتذكر أن طلبة الكليات العملية في الجامعة يقضون الكثير من وقتهم وجهدهم في إهدار واضح لهذا الوقت والجهد من خلال الدراسة بلغة أخري غير اللغة التي يمارسون بها حياتهم فنسبة لايستهان بها من وقتهم تضيع( حتي في السنوات النهائية للدرجة الجامعية الأولي) في ترجمة المصطلحات, مما يؤثر علي الوقت المتاح للتحصيل وبالتالي علي مستوي استيعابه لأساسيات العلم المختلفة. ويقود ذلك الي النظر لمعرفة سبب تدريس العلوم بلغة غير لغة الأم في مجتمعاتنا المختلفة فلا نجد له سببا إلا محاولة تقليد كل ما هو أجنبي مما أدي بأمتنا الي فقد الثقة في نفسها وقدراتها. ودارت العجلة لتؤدي الي دوامة التخلف الذي نعيشه في مجتمعاتنا, حيث اننا وخلال مايقرب من قرن كانت دراساتنا العلمية بلغة أجنبية ولم يؤد ذلك الي تفوق ما بل علي العكس أدي ذلك بالإضافة الي أسباب أخري, إلي مزيد من التخلف عن ركب الحضارة رغم أن إسهامنا في مسيرة الحضارة الإنسانية قديما ليس محل شك وبالتالي فان من حقنا وواجبنا أن يكون لنا حاليا إسهام واضح في مسيرة التقدم. وتضيف إلي حيرتنا حيرة أخري عن سبب هذا الوضع. أهو محاولة تهوين كل قدراتنا ومحاولة غرس الاعتقاد بأن كل ماهو متقدم إنما هو أجنبي؟ قد يكون ذلك حقيقيا فمما لا شك فيه أن الإحساس هو مولد الطاقات وقتل الإحساس بالعزة والانتماء سيفيد المتربص بأمتنا. إن تأثير التدريس بلغة أجنبية علي انتماء الأفراد سلبا لهو بالأمر الواضح تماما مثل وضوح تأثير عملية التدريس بلغة أجنبية علي مستوي الاستيعاب. القضية أكبر من أن تكون قضية تنمية متوهمة للعلماء فهي تنمية للشعب كله بمن فيهم العلماء والتي لايمكن أن تتم إلا من خلال بوتقة واحدة هي لغتنا العربية, فهل اللغة إلا بوتقة تصب فيها مختلف مناشط المجتمع وهويته وقيمه وثقافته؟ ومن العجيب أن قضية تعريب التعليم ووضع اللغة العربية في منظومة التعليم من القضايا التي لاتزال محل سجال في الجمعية التأسيسية لوضع الدستور حيث تأتي الإشارة الي ذلك علي استحياء وكأنها ليست ضمن أولويات التنمية. هذه القضية كغيرها من قضايا التنمية تتجاذبها ألوان عدة من البشر ليس نتيجة لون بشرتهم ولكن نتيجة تلونهم بسمات غريبة عن مجتمعنا وعن أمتنا بل وعن جادة آليات التنمية في أي مجتمع. البعض يقف نظره عند الانطباع الأول وبعض هؤلاء للأسف ممن حصل علي درجات علمية عالية في تخصصات دقيقة ولكن حد ثقافتهم وقف عند حد ثقافة الطفل الإنجليزي سافر أحدهم الي إنجلترا وعندما رجع سأله أصدقاؤه ما الذي أبهرك هناك؟ فكانت إجابته الطفل الإنجليزي فقيل له لماذا؟ فقال لأنه طفل مثقف يتحدث الإنجليزية! هذا المثال وللأسف ينطبق علي عدد لابأس به ممن يدعون الثقافة. هؤلاء لم يدركوا أن الطفل الإنجليزي مثله مثل الطفل الياباني والفرنسي والألماني والمجري والتشيكي يتحدث لغة قومه فالبعض لم يدرك ذلك! ولكنك تجد ممن وصلته المعلومة من يدافع بالباطل عن التمسك بإنجليزية لغة التعليم رغم أن بعضهم درس في الخارج بلغة أقوام ليست الإنجليزية لغتهم فمنهم من درس في فرنسا بالفرنسية وفي ألمانيا بالألمانية وغير ذلك وتراه يتشدق بأن هؤلاء قوم متقدمون وحين نتقدم ندرس بلغتنا! هؤلاء أيضا تناسوا البعد التاريخي وأولويات القضية. هؤلاء الأقوام تقدموا لأنهم تعلموا ودرسوا بلغتهم منذ بداية حضارتهم فهم لم يتعلموا بلغة أخري ثم عندما تقدموا بدأوا في التعليم بلغتهم! وللأسف الشديد تجد منهم من يتصدون للعمل السياسي دون إدراك لأولويات التنمية بصورة شاملة. وليس هذا دعوة الي نبذ تدريس اللغات الأجنبية, بل علي العكس, لابد من الاستمرار في تدريس اللغات الأجنبية كلغة أجنبية فاكتساب اللغة انفتاح علي ثقافة أهل تلك اللغة. وما أحوجنا للانفتاح الجاد علي مختلف اللغات والثقافات. الموقف جد لا هزل فيه, مما يستتبع أن تلتزم الدولة بالتمكين للغة العربية وتعريب التعليم في مختلف مراحله في الدستور إن كانت التنمية بغيتنا!