التف المارة بالشارع حول شيخ نحيف سقط علي الأرض تنزف الدماء من رأسه يحاولون إسعافه, وتباري الجمع في انقاذه فمنهم من وضع البن علي الرأس المشجوج, وآخر يحاول إمالة رأسه للخلف لوقف النزيف. كان يغطي علي صخب المتسائلين عن سبب الإصابة ومن أي شباك خرجت قذيفة الفازة الفخارية التي كادت تودي بحياة العجوز.. أصوات سباب, وصراخ تأتي من أحد العقارات المطلة علي الجمع الغفير, الذي بدأ بالفضول ولمعرفة سبب التجمهر, ظنا أن هناك معركة تدور رحاها بين فريقين يخشي أن تفوته وقائعها. كان صوت المعركة الآتي من شباك الدور الثاني يطغي علي كل الأصوات, وفجأة تعلقت الأبصار بالسماء وصرخ أحد الواقفين في زميله احترس, كان المشهد فريدا والعيون تتعلق بجهاز تليفزيون يخرج مقذوفا يسبح في السماء آتيا من حيث تدور المعركة داخل الشقة, ليسقط في ثوان معدودة علي الأرض منفجرا ناثرا بقاياه وحطامه علي المتجمهرين الذين يحاولون انقاذ العجوز والذين هربوا اتقاء الموت المحقق. تجرأ أحد المارة وصعد البناية يستكشف سر المعركة التي يتقاذف مشعلوها الفازة والتليفزيون وما ان اقترب من باب الشقة مصدر الأصوان المتنافرة والسباب الدائر, حتي اخترقت أذنه استغاثات امرأة تتألم بشدة, كان الصوت حادا تقطعه الأنفاس وتتخلله في طلب الرحمة والصفح. وصرخت احدي الجارات تقف في شرفة منزلها, عبدالله.. مش بيضرب مراته.. دا بيقتلها يا جماعة حد يطلب الشرطة تنقذها من المجنون ده.. ردت عليها جارة مسنة ودموعها تلمع علي خديها مسكينه لو زوجها كافر كان رحمها.. المشكلة أن الأولاد يدفعون الثمن.. يا جماعة اطلبوا اخاها ينقذها من هذا القاسي. وفجأة سكنت الصرخات والاستغاثات بكلمة واحدة آه كانت متحشرجة متقطعة وفتح الباب دفعة واحدة وظهر عبدلله شفته السفلي مدممة ويتصبب العرق من علي جبهته السمراء, ويتطاير الشرر من عينيه وينتفش شعره مع لحيته النابتة بشكل واضح كانت هيئته أشبه بالإنسان الأول ساكن الكهوف يكملها ملابسه شبه الممزقة بقميصه عديم الأزرار وجيب بنطاله المقطوع. خرج من الباب واتجه للسلم وهبط الدرج مسرعا دون النظر للجيران المستائين الغضبي عديمي الحيلة. هرولت السيدة المسنة تجر قدمها البطيئة وهي تقول اطرقوا الباب اطمئنوا علي المسكينة أم أسماء, شكلها ماتت منه لله.. الكافر عديم الرحمة! ثلاث نسوة وقفن يطرقن الباب دون جدوي الي أن نادت احداهن يا أسماء انت فين بابنتي؟! وينصتن جميعا يبدو أن هناك حركة خلف الباب بسيطة ولكنها تدفع الي الأمل, وكررن النداء. وفتح الباب بتردد وخوف كانت تقف أسماء ذات ال10 سنوات, خط أحمر يطل بقوة علي جانبي وجنتيها تنظر الي الأرض كسيرة النفس ترتعش في خوف واضح ومع انفراجة الباب الواسعة سقط الضوء عليها فبدا واضحا الي ماذا تنظر وقد بالت علي ملابسها. واندفعت النسوة يبحثن عن الأم التي تئن, كان الصوت بدأ يتضح قرب باب المطبخ وقد سد مدخله بجسدها ساقطة أمامه نائمة علي ظهرها تنزف من رأسها, ومع قذف بعض المياه في وجهها وحشر بصلة في أنفها مع التهوية باستمرار بدأت تتضح الكلمات علي الفم ذي الدم المتجلط والأسنان الضائعة. بكت خمس نسوة وأسماء وشقيقاتها الثلاث المختفيات أسفل السرير علي معركة قاتلة كادت تزهق روح أم أسماء وأولادها لعدم وجود خبز بالمنزل ونسيان عبدالله المفتري شراءه أثناء عودته. وانطلقت كلمات الصبر والموعظة والاحتساب عند الله وعدم طلب الطلاق فمن سيطعم أربعة أطفال, هكذا كانت حياة أم أسماء وزوجها عبدالله المفتري كما سموه الجيران جراء قسوته مع ذويه وبطشه بهم لأتفه الأسباب. ومرت حادثة الفازة والتليفزيون كما مرت من قبل شاكلتها منذ شهر, وغابت الشمس وعادت في رحلتها المكوكية بلا انقطاع ومسحت من الذاكرة الأفعال الشائنة والدموع التي جرت من أفعال عبدالله وشغل الجميع بحياتهم, ولكن يأبي الشيطان إلا أن يلبس جسد الزوج الأهوج. دوت قنبلة في باب شقة أم أسماء وفزع جيرانه كالعادة وهرولوا مسرعين كل يمني نفسه أن يكون الانفجار أودي بحياة الزوج الجبار ولكن هيهات.. هيهات. قرع من نسي نفسه من الجيران الباب وسط الصرخات القادمة من حناجر الأطفال المفزوعين الذين تنبئ صيحاتهم بأنهم يجرون داخل الشقة خوفا من أمر جلل.. زاد الطرق بالباب.. وأصر جميع السكان هذه المرة علي الخروج جميعا والاتحاد ضد هذا الزوج الذي سيحاسب الله السكات عن حق الوقوف ضده, واتصلت الجارة المسنة بشقيق أم أسماء ليأتي وينقذ شقيقته من يد الظالم. ورضخ الباب وفتح, وظهر الزوج يمسك بيده جركن لم يدر بخلد ابليس كنه ما يحويه, وبدا تحت أقدام الزوج مقعد أكل الزمان وشرب علي أخشابه كان حطامه واضحا من أثر ضربه بباب الشقة, وتباري الجيران كل يحاول اثناء الزوج عن العنف مع الزوجة المسكينة وذكره أحدهم بأنها سيدة لم تكن قط مخطئة أو ذات سلوك سيئ يدعو لهذه النوائب الهابطة دائما علي رأسها. وأقسم عليه أحد الجيران الميسورين أنه أخوه وأنه علي استعداد ليسدد له أي تعثر مالي يكدر صفوه شريطة الاقلاع عن العنف تجاه أسرته, ووصل شقيق الزوجة واشترك مع الجميع في تهدئة الثور الهائج دون جدوي. وانتبه أقرب الواقفين اليه الي الجركن الذي يحمله وميز بأنفه رائحة يعرفها ولكن عقله أنكرها, وتمني أن يكون كاذبا, ولكنها الحقيقة بكل أسف, واقترب شقيق الزوجة يحتضن الشيطان القاسي ولكنه رجع الي الخلف وعاد يسب شقيقته وعائلته وعاتبه الشاب مرة أخري وذكره أن كل هذه المصائب سيدفع الأبناء ثمنها. واحتدمت المناقشة وفوجئ الجميع بالزوج يرفع يده مرتين ويصب سائلا شفاف اللون ذا رائحة قلوية تلهب الأنوف علي وجه شقيق زوجته وصرخ أحد العارفين الكل يحافظ علي نفسه.. انها ماء النار, وصرخت النسوة وهرعن كل يعود الي شقته وسقط الشقيق أرضا وسط صرخاته ولاذ الزوج بالفرار, واستغاثت أم أسماء بأحد الجيران لحمل شقيقها للمستشفي لانقاذه من الموت, وصرخ شقيق أم أسماء للمرة الألف إني أموت لا أري أمامي إلا شيئا أبيض, ولكن الموت كان أرحم. وفي المستشفي هرع الأطباء لانقاذه ولكن شاء القدر أن يغيب نور عينيه للأبد جراء مياه النار التي نفذت الي قاع مقلتيه لتحرمه الرؤية أبد الدهر وتحجرت الدموع بعينيه, وسقطت أم أسماء مغشيا عليها. وكانت تحقيقات نيابة حلوان برئاسة أحمد نديم قد كشفت عن أن المجني عليه سيد عبدالرحيم31 سنة عامل, الذي وصل لمستشفي قصر العيني في حالة سيئة ووصف التقرير الطبي أن اصاباته بوجهه تسببت في اصابته بالعمي جراء سكب مياه النار علي وجهه لتدخله في فض مشاجرة نشبت بين شقيقته وزوجها, ومحاولاته اقناع الزوج عدم سبها أمام أطفالهما الأربعة مما أثار غضب المتهم فعاجله بإلقاء ماء النار عليه فأصابه بالعمي نتيجة الحروق الشديدة بعينيه. وتمكنت مباحث حلوان من ضبط المتهم عبدالله53 سنة عامل وأمر المستشار طارق أبوزيد المحامي العام الأول لنيابات جنوبالقاهرة بحبسه علي ذمة التحقيقات, وأقر جيران الزوج أمام النيابة بأن المتهم دأب علي ضرب واهانة زوجته أمام السكان وحاول طردها أكثر من مرة وتدخل كثير من السكان لإثنائه عن تكرار أفعاله إلا أنه لم يكن يستمع لنصائحهم, حتي كانت المعركة الأخيرة التي حمل فيها جركن ماء النار وسكبه علي شقيق زوجته لإسدائه النصح له.