جاء الاسلام ليحرر العقل, ويفتح أمامه مجالات طال ما ظلت مغلقة. يدعو إلي التدبر والتفكر في خلق السماوات والأرض وما فيهما, يحث علي السير والنظر والاعتبار, فأنتج حضارة عظيمة, لم يجدها الواقع, بل انطلقت في الخيال, تحلم بأن يطير الإنسان في السماء, حرا طليقا كما الطير, يحمله الهواء, إلي أعلي حيث يمكنه إلقاء نظرة بانورامية علي أرض البشر, ومن حلم الطيران بجناحين الذي حققه عباس بن فرناس, إلي الغوص في فضاءات السماء بعيدا إلي القمر أو المريخ, يبقي الفضل للمتقدم. عباس بن فرناس ابن حضارة الأندلس الإسلامية, التي بلغت في الرقي الفكري والعلمي مدي لا يطاول, وكانت نقطة تلاق مع أوروبا وعصورها المظلمة, فانتشر شعاع النور ليعم أرجاء القارة العجوز, متجاوزا إياها إلي العالم الجديد في الأمريكتين. ولد ابن فرناس في قرطبة عام194 ه/810 م, فوجد العلم والتعلم متاحين للجميع, فدرس الرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء, وصار مخترعا, اخترع ساعة مائية سماها الميقات, وابتكر في الأندلس صناعة الزجاج من الحجارة والرمل, وصنع عدة أدوات لمراقبة النجوم, وابتدع القبة السماوية, فكان الناس يقصدون منزله لمشاهدة ما صنع من رسم جميل بديع يمثل هيئة السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها والشمس والقمر والكواكب ومداراتها. هو أول من فكر في الطيران, فهو أول رائد للفضاء ومخترع للطيران, وأول إنسان يخترق الجو من البشر, كسا نفسه بالريش, واتخذ جناحين, طار بهما في الجو مسافة بعيدة, ثم سقط فتأذي في ظهره, ولا عيب في سقوطه فقد كانت التجربة الأولي. لم يكن شابا يومها, كان في الخامسة والستين من عمره, قام بتجربته في الطيران بعد أبحاث وتجارب عدة, درس في خلالها ثقل الأجسام ومقاومة الهواء, وتأثير ضغط الهواء فيها إذا ما حلقت في الفضاء, وقد قام بشرح تلك الأبحاث أمام جمع من الناس دعاهم ليريهم مغامرته القائمة علي الأسس العلمية, ثم صنع آلة تتكون من عكوس وزوايا مركبة ومرتبطة بعضها ببعض, وتتحرك بتأثير الحركات المركزية من اليدين والرجلين, وقد كساها بالقماش والريش, ثم ربطها في جسمه بشرائط من الحرير المتين. كتب أستاذ التاريخ الأمريكي لين هوايت: أضخم وأجرأ تجربة علمية للطيران هي تجربة ابن فرناس, إذ لم تشبهها أية شائبة من خرافة أو خيال, وإنما تتصف بالمنهجية العلمية بكل المقاييس. وإضافة لذلك, فإن تجربة ابن فرناس, قد صار تطبيقها وفق نظريتين علميتين وضعهما العالم المسلم الشهير, مازال يؤخذ بهما إلي هذا اليوم في مجال الطيران. صمم طابع بريد يصور محاولته الطيران في ليبيا, وأطلق اسمه علي فندق مطار طرابلس, وفي العراق وضع تمثال له علي طريق مطار بغداد الدولي, وسمي مطار آخر شمال بغداد باسمه, وتكريما له سميت فوهة قمرية باسمه وتعرف بفوهة ابن فرناس القمرية. توفي ابن فرناس في حدود عام888 م بقرطبة, بعد أن سطر اسمه في سجل الأوائل المتقدمين.