إلي أين تمضي مصر ؟ علامة استفهام في حقيقة الحال مزعجة لا لمصر فقط بل لإطارها الجغرافي والتاريخي, انطلاقا من أن مصر كانت ولا تزال عند كثيرين بوصلة الشرق, وفي هذه الأجواء المضطربة والتي يسعي فيها الجميع لنهضة مصر يبقي البحث عن السبب الرئيسي وراء هذه الضبابية أمرا واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة. في هذا الإطار يكون اللجوء إلي قامة فكرية وعلمية وتاريخية ودستورية بوزن الدكتور إبراهيم درويش الفقيه الدستوري الأول في مصر وربما العالم العربي أمرا لابد منه, لا لأنه فقط أبو الدساتير المصرية والعربية في نصف القرن الماضي, بل أيضا لأنه صاحب رؤية إنسانية وفكرية وثقافية منذ زمن طويل, رؤية تتجاوز السياقات المحلية والإقليمية العربية والشرق أوسطية إلي العالمية, وقد لا يعرف الكثيرون أن الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس السابق المغدور جون كيندي استعانت به لوضع حد للخلاف القائم حول صلاحيات البيت الأبيض والكونجرس الأمريكي, وقد فاز بحثه بالجائزة الأولي وتم منحه الجنسية الأمريكية الشرفية التي لم يحصل عليها من قبل سوي ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الأشهر. في هذا الحوار نتوقف مع رجل علامة من علماء مصر محاولين استكشاف الألم واستنهاض الأمل من بين حنايا الأضلع المصرية المثخنة بالجراح فإلي نص الحوار: * بداية.... إلي أين تسير مصر وباللهجة المصرية مصر رايحة علي فين ؟ كلما مضي الوقت, كلما تعمق المجهول وأصبحت مصر تمضي في طريقه, الوضع الآن اخطر مئات المرات مما كانت عليه الأحوال قبل25 يناير, وفي تقديري إن غياب الدستور يقف وراء هذه الحالة لأن أي نظام سياسي لابد وان يقوم علي قاعدة وبناء هندسي قوي, وهذا ما يتمثل في الدستور, والدستور هو البناء الهندسي للنظام السياسي, وبدون الدستور لا معني للنظام السياسي وصناعة الدساتير الحديثة مختلفة الآن عن القرن الماضي, وحتي عن العقد الأخير منه ذلك لان النظم تتطور بشكل طبيعي جدا بسبب حدوث تداخل بين العلوم الاجتماعية وعلم القانون أو علم السياسة أو علم النفس. * هل يعني هذا أن الإشكالية في حقيقة الأمر وانطلاقا من هذا المنظور تتجاوز مصر إلي بقية العالم العربي ؟ ** هذا صحيح فالنظام السياسي المصري علي سبيل المثال يسير بشكل خاطئ منذ ثورة1952, والرؤية لوظيفة الدولة تختلط برؤية رئيس الدولة الذي يتحكم في القرار, فيما يراه لصالح القبيلة أو الجماعة التي ينتمي إليها. مصر وغالبية العالم العربي تسير في الاتجاه المعاكس تنشئ وزارات بقرارات انفعالية دون وجود الأساس الدستوري, الذي يمثل القاعدة الرئيسية للدولة الحديثة. * ما أسباب عدم رضاك عن دستور1971 وما علاقتك بداية بهذا الدستور ؟ ** كنت مقرر لجنة دستور1971 وكنت آخر من سلمه إلي الرئيس الراحل أنور السادات للاستفتاء عليه, غير أنني فوجئت بدستور آخر تماما كما أغضبني جدا وأبديت هذا الغضب للرئيس السادات كثيرا ولم يممسني بمكروه, والإشكالية الحقيقية أنني منذ عام1971 وأنا أطالب بتغيير ذلك الدستور لأنه يدور حول محور واحد أي وجود جميع السلطات في يد رئيس الجمهورية, يمارسها بمفرده كما أن رئيس الوزراء في مصر لا يملك أي صلاحيات فعلية حتي هذه اللحظة, إلا فيما يكلفه به رئيس الجمهورية, أو يفوضه فيه والتفويض يمكن سحبه في أي وقت وتقليصه وهو الأمر الذي فعله الرؤساء السادات وحسني مبارك مع رؤساء الوزارات بحيث كانوا يعطون لهم الصلاحيات ويسحبونها وقتما يشاءون. * قبل25 يناير2011 بأيام قليلة كنت شاهدا علي محاولات جرت من قبل الرئيس السابق حسني مبارك لتعديل دستور1971 ما قصة تلك التعديلات ومصيرها ؟ ** في24 يناير اتصل بي السيد عمر سليمان مدير المخابرات العامة المصرية وقتها, وطلب أن نلتقي وتم اللقاء في مكتب رئيس مجلس الشعب السابق الدكتور فتحي سرور, واخبرني سليمان أن الرئيس مبارك سوف يصدر قرارا بتشكيل لجنة لتعديل الدستور وقال لي افعل ما تراه مناسبا للظروف التاريخية الصعبة التي نمر بها. وفي حقيقة الأمر كنت قد أعددت مشروعا للدستور المصري في30 مادة علي نسق الدساتير الحديثة المختصرة المواد تتضمن شكل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية. * ماذا عن مصير ذلك الدستور ؟ ** في الحقيقة هذه لم تكن أولي علاقاتي بالدساتير المصرية فقد قمت علي عمل صناعة دساتير مصر بداية من دستور1956 ثم دستور1958 ودستور1964 واشتركت في إنشاء دساتير كثيرة في عدد من الدول العربية. أما عن دستور2011 فقد كان الوقت قد فات وبدأ الانفلات الأمني وسقوط نظام مبارك وظهور الإخوان المسلمين علي ساحة الأحداث بحجة أنهم الذين قاموا بالثورة محاولين الظهور في ثياب حماة الوطن. * من أين بدأ الخطأ في المسار الدستوري في مصر بعد25 يناير2011 ؟ ** بدأت المسيرة العكسية مع الإعلان الدستوري الذي تم الاستفتاء عليه في19 مارس2011 برسم ديني بمعني الترويج لمقولة إن من يجيب بنعم للإعلان يدخل الجنة ولا تدخل صاحبها النار والقائمون علي هذا الإعلان قاموا بتعديل8 مواد أفرزت10 مواد والمثير أن المواد التي تم الاستفتاء عليها اكتوي بنارها الإخوان المسلمون مثل المادة28 التي تعتبر تلخيصا سيئا لا يقوم به تلميذ في المرحلة الابتدائية للمادة76 من دستور71 والتي تم تعديلها في2007, وكنت قد هاجمت المحكمة الدستورية ورفعنا دعوي قضائية لأنهم لا يملكون الرقابة السابقة, لكنهم يملكون الرقابة اللاحقة. وهنا اذكر بأنني الأب المنشئ للمحكمة الدستورية وأنا الذي قمت بكتابة نصوصها مع دستور71, واخترت نموذجا من الرقابة علي غرار النموذج السويسري بحيث تحتفظ رقابة الإلغاء بأثر رجعي بمعني انه حين يصدر حكم بعدم دستورية قانون معين فان الحكم يكون في هذه الحالة بأثر رجعي وليس من تاريخ الحكم. منذ مارس2011 ومصر تسير للخلف بدون دليل واضح تسير عليه واكبر خطأ عدم إنشاء دستور حديث حقيقي تسير عليه البلاد حتي الساعة. * هل حدثت محاولات لاحقة لاستدراك هذا الخطأ الذي تراه علي ذلك النحو ؟ في16 مايو2011 تم استدعائي من قبل المجلس العسكري والذي كان مجتمعا بكامله مع طاقم حكومة الدكتور عصام شرف, وقلت لهم بالحرف الواحد إن الدستور الأمريكي يتكون من7 مواد منذ إنشائه عام,1789 بعد الاجتماع اتصل بي رئيس الوزراء وطلب الاستعانة بي فقلت له لي شرط واحد وهو أن ترسل لي المواد مكتوبة وأرسلها أيضا مكتوبة, لكن شيئا لم يحدث حتي الدعوة لانتخابات مجلس الشعب الذي حكم ببطلانه لاحقا. * لماذا توقعت مبكرا أن يتم حل ذاك البرلمان ؟ منذ البداية قلت إن هذا البرلمان سيطعن علي عدم دستورية القوانين التي أنتجته لاسيما وان مصر لا يجوز فيها إلا انتخابات بالنظام الفردي وان القوائم لا تناسبنا فشرط أساسي لها وجود أحزاب قوية وليست كرتونية. * كيف تقيم حال الأحزاب السياسية في مصر بعد ثورة25 يناير ؟ هناك أحزاب قامت مجاملة لجماعات دينية فحزبا الحرية والعدالة, والنور قاما مجاملة للإخوان والسلفيين, وإذا تم الطعن عليهما لابد وأن يحلا لأنهما ذوا مرجعية دينية قولا وفعلا... الذي في مصر الآن ليست أحزابا بل جماعات تحت مسمي أحزاب. * خلال الأشهر الستة, عمر البرلمان المنحل كيف رأيت أداء أعضاء البرلمان المنحل ؟ كما نعرف فاز التيار الديني بغالبية مقاعد ذلك البرلمان, وأضحي الجميع يتحدث في أي شئ وكل شئ مع عدم قدرة أي منهم علي فهم القانون أو الدستور, وعملوا علي تفصيل قوانين علي مقاسهم فقط مثل قانون العزل السياسي وقانون الانتخابات الرئاسية. الإشكالية الحقيقية هي أن أعضاء جماعة الإخوان ليس لديهم فكرة عن القوانين والعمل في العلن, كيانهم قائم علي أساس السرية التامة والسمع والطاعة. * إذا انتقلنا من إشكالية انتخاب أعضاء البرلمان إلي مشكلة اختيار اللجنة التأسيسية لوضع الدستور... كيف لنا أن نفهم ما الذي جري ويجري ؟ ** اللجنة التأسيسية الأولي كلها كانت من داخل المجلس بنسبة83% ولكنهم من التيار الديني سواء أخوان أو سلفيين.. كما أن المادة60 من الإعلان الدستوري تنص علي أن ينتخب الأعضاء المنتخبون في مجلس الشعب والشوري مائة عضو لوضع الدستور, وهنا نتساءل كيف ينتخب العضو نفسه ولهذا قضت محكمة القضاء الإداري ببطلان تشكيل الجمعية... لاحقا قامت الجماعة والحزب بمساعدة السلفيين وتحايلوا علي القانون وادخلوا40 عضوا من الخارج تابعين أيضا لهم بحجة أنهم دخلوا بصفتهم الحزبية. * هل يعني ذلك أن الحكم المرتقب في الأول من سبتمبر المقبل من المحكمة الإدارية سوف يحكم ببطلان الجمعية التأسيسية الثانية التي تعمل حاليا لإعداد الدستور ؟ ** نعم سوف يحكم بالبطلان وعدم شرعيتها100% وعدم دستوريتها بل وأكثر من ذلك أقول إن المادة60 من الإعلان المكمل احتفظ فيها المجلس العسكري بحق تشكيل اللجنة كما احتفظ الإعلان الدستوري المكمل بحق المجلس العسكري في الدعوة لانتخابات لمجلس الشعب. من هنا تبدأ الأمور من حيث انتهت, وحتي لو استكملت اللجنة عملها فان للمجلس العسكري أن يستخدم حق الفيتو بحجة أن اللجنة لا تسير وفقا لما هو متفق عليه أو أنها مخالفه للمبادئ الدستورية العامة, وهنا فان المجلس العسكري يمكنه تحويل هذه المواد إلي المحكمة الدستورية العليا للنظر فيها فإذا رأت المحكمة أنها غير دستورية فان قرارها ملزم للجميع. * هناك خلاف قائم الآن بين الإخوان والسلفيين من جهة وأطراف أخري من جهة ثانية حول المادة الثانية من الدستور كيف تنظرون لهذا الخلاف ؟ ** المادة الثانية موجودة في الدستور المصري منذ عام1923 والدستور الشهير والنص دائما علي مبادئ الشريعة الإسلامية مع حرية اختيار العقيدة فطبيعة الشريعة الإسلامية تترك للمرء حرية العبادة الأخوان والسلفيين لا يريدون مبادئ الشريعة الإسلامية, إنهم يتطلعون إلي وضع أحكام الشريعة الإسلامية موضع التطبيق بمعني تفعيل حدود الحرابة في بلد غير مؤهل لذلك في هذا التوقيت وبهذه الظروف والسياقات الاقتصادية والاجتماعية. * أليس من تناقضات القدر إن يكون الفقيه الدستوري إبراهيم درويش في مقدمة الفقهاء الذين يصنعون اليوم الدستور التركي ولا يشارك في وضع الدستور المصري ؟ ** حقيقة لا اعلم لأي سبب تم اختياري من قبل الدولة التركية لأساهم في وضع الدستور التركي الجديد وعندما حاولت الحصول علي جواب للسؤال المتقدم قالوا لن نجيب هذا بالرغم من أن تركيا تملك أساتذة وفقهاء دستوريين كبارا جدا وقد قمت بتغيير مواد كثيرة في الدستور التركي ولم يعترض احد من قريب أو من بعيد وقبلوا الأمر بمنتهي الود والبساطة. * للمقارنة كيف تمضي عملية كتابة الدستور التركي ؟ ** في البداية كانوا يريدون عمل جمعية تأسيسية من الجمعيات والأحزاب الموجودة في تركيا, لكني قلت لهم إنكم لن تتفقوا في هذا الموضوع ولكن الحل هو أن يتم اختيار10 شخصيات منهم شعراء وفنان وثلاثة من أساتذة القانون, علي أن تكون هذه اللجنة ليس لها أية انتماءات حزبية إطلاقا وان تجتمع وتستمع إلي جميع الأحزاب والجماعات والأعراق والأقليات وتطالبهم بان يقوموا بتقديم طلباتهم مكتوبة لدراستها ومناقشتها علي ارض الواقع, ثم بعد الانتهاء من كل ذلك يتم مناقشة جميع الأطراف للخروج بأفضل صيغة للدستور حتي يتفق الجميع علي صياغته لان الدساتير لا تكتب بالأغلبية بل تكتب بالإجماع والتوافق بين الجميع. * في تقديركم هل يصلح النموذج التركي لتطبيقه في مصر ولماذا يري البعض أن مصر في مواجهة خيار من اثنين إما النموذج التركي أو الباكستاني ؟ ** لا هذا ولا ذاك لا يمكنك إن تنقل نموذجا من بلد إلي بلد أخر لكن يمكنك النظر إلي التجربة في أي مكان والاستفادة منها إلي ابعد حد. علي سبيل المثال انظر إلي النهضة في تركيا تجد أن الأتراك كانوا صادقين مع أنفسهم, كان اهتمام اردوغان وشاغله الأكبر هو النمو والتنمية الاقتصادية, لا الصراعات السياسية, ولهذا تفرغ للتنمية الحقيقية فضاعف دخل الفرد هناك عشرة أضعاف, حتي أصبحت تركيا عبارة عن مناطق سياحية جاذبة من اقصاها إلي أقصاها وأصبحت اسطنبول تحفة غير موجود لها مثيل في الغرب متفوقة صناعيا وماليا حتي إن الاتحاد الأوروبي هو الذي يسارع إلي مد يده لتركيا للانضمام للاتحاد وتركيا تتأني وغير مستعجلة هل يمكننا أن نستفيد من هذه التجربة. * في تقديركم أيهما أفضل أو انسب لمصر في ظروفها الحالية النظام البرلماني أم الجمهوري أم المختلط ؟ ** في ظل الظروف الحالية النظام المختلط هو الأنسب لمصر في الفترة القادمة, وفي ظل مجلس نيابي واحد يملك سلطة التشريع ورئيس جمهورية بسلطات محددة ورئيس وزراء بسلطات حقيقية. * حال وضع الدستور الجديد هل تستتبعه بالضرورة انتخابات برلمانية جديدة ؟ ** نعم ذلك كذلك لان الدستور الجديد يلغي العمل بالدستور القديم ويتضمن في مواد الدستور الجديد إعادة انتخاب المؤسسة التشريعية لأنه تم انتخابهم علي أساس دستور قديم بصلاحيات معينة, أما وقد جاء الدستور الجديد لتأكيد الصلاحيات الأخري فلابد أن تكون هناك إعادة للانتخابات.