كل عام ومصر بخير, كل عام والأمة العربية بخير, كل عام والدنيا كلها بخير وسلام, يأتينا شهر رمضان المعظم بنفحات البركة والايمان, نتفكر في عبر الدنيا والزمان. كنت قد عقدت العزم أن أجتنب في هذا الشهر الفضيل حديث الثورة والسياسة, ولكن كيف أستطيع تجاهل أعوام ستين عشتها من التاريخ الحديث, فلقد شاء عمري أن أشهد في طرفيه ثورتين فصلت بينهما ستة عقود, الأولي شهدتها في شروق العمر طفلا بالكاد يعي الأحداث, والثانية عشتها في غروب العمر كهلا يتأمل مجريات الأمور ويتعجب سجلت ذاكرتي كما حوت كتاباتي ارهاصات الثورة الأولي, مشاهد من حريق القاهرة, يوم غطت سحابة الدخان الأسود الكئيب سماء العاصمة, ومن شرفة منزلنا في شارع قصر العيني شهدت شبانا غاضبين يضرمون النار في ترام مقلوب, كان المشهد عجيبا ومهيبا ورهيبا وحين سألت دخلت مفردات جديدة الي لغتي البكر مثل الفدائيين والاستعمار والجلاء وحرب فلسطين, وفي صيف نفس العام قامت مجموعة من الضباط الشبان بانقلاب عسكري( سمي أحيانا بالحركة المباركة) واستولت علي حكم البلاد, والتف حولها الشعب بسرعة غريبة, فتحول الانقلاب العسكري الي ثورة شعبية, وأبحر الملك مطرودا الي خارج البلاد علي ظهر اليخت المحروسة وتحول حكم البلاد الي النظام الجمهوري. في زيارة لليخت الملكي التابع الآن للقوات البحرية المصرية, نظرت الي تلك البقعة التي جلس فيها الملك المخلوع وهو يجهش ببكاء بعد الميعاد, وقلت من الذي يفهم درس التاريخ. جاءت ثورة يوليو52 بحراكها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي, كان ملمحها المميز انها انحازت للفقراء والبسطاء من الناس, وكانت ثورة عظيمة الانجازات وعظيمة الأخطاء والتجاوزات, ولكن تبقي ذكراها التي تحل علينا اليوم لتذكرنا بمرحلة غنية في تاريخ كفاح هذا الشعب العظيم. الخطأ القاتل للثورة في يقيني أنها لم تبن نظاما ديمقراطيا راسخا, لقد قضت علي النظام السياسي القائم قبل الثورة, لفساده( علي حد زعمها) ولم تأت ببديل فعال. فقط تحدثت عن الديمقراطية ومارست الديكتاتورية, واتخذت مؤسسات الحكم الديمقراطي التي أقامتها اشكالا صورية بينما القرار النافذ هو لفرد أو أفراد يحكمون بالهوي, فعكست مرايا نجيب محفوظ الواقع المؤلم في عبارته البليغة ذهب الملك وجاء عدد غير محدود من الملوك وحين غاب البناء الديمقراطي المؤسسي وأصبحت السلطة مطلقة في أيدي مجموعة من الأفراد, تحولت البلاد من توجه اقتصادي ارتآه رئيس سابق الي وجهة اقتصادية معاكسة طبقا لرؤية رئيس لاحق, وفقدت البلاد وجهتها الاقتصادية وتاهت تماما حين جاءها رئيس بلا رؤية. ولأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة, ولأن النفس امارة بالسوء, ضاعت مكتسبات الثورة حين قام عليها مماليك القرن العشرين, فعاد الاقطاع فاحشا فخصصت أراضي الدولة للمقربين, وعادت الرأسمالية المستعمرة المستغلة بأبشع صورها فخصصت مصانع الدولة وبيعت للمغامرين وتآكلت الطبقة المتوسطة في المجتمع, وانتشر الفقر بين الناس, وتخلت الدولة عن دورها فتدنت الخدمات الصحية والاجتماعية والتعليمية وحين بشرتنا أجهزة الدولة أننا نعيش أزهي عصور الديمقراطية استشري الفساد السياسي في صوره الفجة, فزورت ارادة الناس جهارا نهارا في كل أشكال الانتخابات, بدءا من اتحادات الطلبة وانتهاء بالمجالس النيابية والانتخابات الرئاسية. المثير أن كل ذلك تواكب مع الاعداد الحثيث لتوريث حكم البلاد والعباد والعودة الي الملكية أو استحداث نظام مهجن مسخوط أسماه البعض جملوكية. الثورة التي قامت لتخلص المواطنين المصريين من الفقر والجهل والمرض أوصلتهم بعد ستين عاما الي منتهي الجهل والفقر والمرض. وكان لابد أن تقوم ثورة علي الثورة تنادي بحاجة المصريين الي العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. في الثورة الثانية شهدت من شرفة منزلي بالاسكندرية, المطلة علي قسم شرطة الرمل, مجموعة من الشباب تضرم النار في القسم, كان المنظر مزعجا ومفزعا ومروعا, وحين اتصلت بمنزل الأسرة الملاصق لمبني محافظة الاسكندرية أبلغتني شقيقتي أنهم يحرقون مبني المحافظة, وحين ذهبت في الصباح التالي لزيارة والدتي شهدت حزينا أطلال مبني المحافظة وأقسام شرطة الاسكندرية المحترقة في جمعة الغضب طال الحريق مصر كلها, وسقطت رؤوس النظام ولكن دارت معارك طاحنة حيث استهدفت أذناب النظام الساقط المتغلغل في أعماق الدولة, المتشبث بتلابيب الحكم, شباب الثورة الأعزل والشعب الطيب, فحاكت مؤامراتها الممنهجة, وانفقت أموالها الملوثة, وأطلقت أكاذيبها الملفقة, وجيشت عصاباتها المنظمة, وسعت لتحويل ثورة نبيلة الي انقلاب عسكري بغيض. القاسم المشترك الأعظم بين الثورة الأولي والثانية أن هناك مجموعة من المسعورين علي المال الحرام والسلطة الفاسدة والجاه الزائف, يضعون مصالحهم فوق الوطن, يسرقون ثروات الشعب وينهبون أمواله ويزيفون ارادته, ولايريدون أن يكفوا عن فعلهم الشائن, فدفعوا الناس للثورة. هل نعي الدرس المتكرر بعد ستة عقود, وندرك أن التلاعب بارادة الشعوب هو محاولة فاشلة وغبية لتحويل مسار القدر, وهو الدعوة المؤكدة للثورة, وهل تمتد بنا سنين العمر لنشهد ثورة ثالثة وعلي رأي المثل الشعبي الدارجالتالتة تابته!! جامعة الإسكندرية