أشعر بالفخر الشديد كلما تصفحت مجلدات صحيفة العربي, واسترجعت علي صفحاتها, وبين سطور موضوعاتها الجريئة المقتحمة. ذكريات نحو خمسة عشر عاما, قضيتها بين جدران هذه الصحيفة, مراسلا ثم محررا متنقلا بين العديد من أقسامها, قبل أن يستقر بي المقام سكرتيرا عاما لتحريرها. ويراودني كلما مررت بالقرب من مبناها العتيق, الذي لا يزال قائما في مكانه علي تخوم حي السيدة زينب, حيث نوافذ غرف الأرشيف القديمة المطلة علي شارع يعقوب, حنين غامر لا أعرف كنهه, لتلك الأيام التي خلت, وبخاصة ما يتعلق منها بالسنوات العشر الأخيرة, حنين يشبه إلي حد كبير ذلك الاحساس الغريب بالفقد أو إن شئت الدقة الاشتياق إلي ليالي الاعتصام في ميدان التحرير, في الأيام الأولي للثورة. تري أيهما أقوي تأثيرا في النفس: مشاعر الصمود في خنادق المقاومة, أم مشاعر الفرح بالانتصار الذي يأتي دائما متأخرا, وكأنما كتب علي أبناء جيلي, وقد صرنا في منتصف الاربعينات, أن يعيشوا علي امتداد حياتهم مرارة ذلك الانتظار الطويل, من أجل تحقيق ولو جزء بسيط من أحلامهم المؤجلة, حتي إذا ما تحقق النصر, عاودهم الحنين إلي معركة أخري. علي مدي أكثر من عشر سنوات أو يزيد قليلا, قدمت العربي أقصي ما يمكن أن تقدمه صحيفة حزبية محدوودة الموارد والامكانات للوطن, وربما تكفي قراءة عادلة لما سطره صحفيوها وكتابها الجسورون علي مدار هذه السنوات للدلالة علي عظمة ما حدث. ربما يكفي لهذه الصحيفة, وقد ضربتها أمراض الحركة الناصرية, وصراعات قياداتها المحمومة علي الزعامة والهيمنة, حتي توقفت تماما عن الصدور قبل شهور في صمت, ودون أن يشعر بها أحد, انها تجاوزت بإمكاناتها المادية المحدودة, والمنعدمة إذا ما شئت الدقة مقارنة بمثيلاتها من الصحف, دورها كصحيفة حزبية تعبر عن تيار سياسي بعينه, لتتحول في أحلك السنوات التي عاشتها مصر في الأيام الأخيرة لنظام مبارك, إلي صحيفة وطنية جامعة, تستوعب جميع الآراء من كل التيارات الوطنية, وتفتح قلبها قبل صفحاتها حتي للمختلفين معها. يكفي ل العربي انها كانت أول من قال لا صراحة ومن دون مواربة لحكم مبارك وعائلته, ويكفيها أنها كانت أول من فضح أطماع الوريث, ودفعت في سبيل ذلك ثمنا غاليا, ليس فقط من قوت صحفييها وكتابها عبر حصار طويل امتد لسنوات, بل ومن أمنهم الشخصي, عندما اختطف عبد الحليم قنديل ذات ليلة ليلقي عاريا في الصحراء, لأنه قال ما لم يجرؤ أحد أن يقوله عن أطماع شجرة الضر في حكم مصر من الباطن. أشعر بالفخر الشديد لأنني قضيت أكثر من خمسة عشر عاما من عمري المهني في العربي, كانت بحق أجمل سنوات العمر, برغم ما تعرضنا له من تضييق يصل إلي حد انسحاق الروح, وما واجهناه من صعوبات تصل إلي حد الخطر, وأشعر بحزن يصل حد الألم لأن تلك الصحيفة الجسورة قد انتهي بها الحال, إلي ما يشبه الموت الاكلينكي, دون أن ينتبه إلي آلامها رفاق المهنة, ولا حتي هؤلاء الذين غردوا عبر صفحاتها, في وقت كان ممنوعا فيه علي البلابل أن تعود إلي أعشاشها فوق أشجار الوطن. انتهت العربي لكني مازلت أجدها باقية, كلما نظرت في عيني ثائر من الميدان, ربما لأنني أجد فيها بعضا من سطور كتبناها, وأشعر بالفخر كلما سمعت صوت الثوار ينادي بكلام كثير قلناه, في وقت لم يكن ليجرؤ أحد فيه علي الكلام. [email protected]