تأثرت تأثرا بالغا بمقال رائع للكاتب محمد المنشاوي في جريدة الشروق يقص فيه حكاية داون لوجنز, وهي تلميذة بمدرسة حكومية أمريكية في بلدة لوندال بولاية كارولينا الشمالية لم تبلغ18 عاما بعد. وجدت نفسها مشردة في الشارع, بعد أن أدمن والداها العاطلان المخدرات ولم يسددا إيجار السكن فطردت الأسرة بالكامل من مسكنها البائس وغادر والداها الولاية وانقطعت صلتهما بابنتهما. قضت التلميذة الصغيرة أياما وأسابيع هائمة في الشوارع, تنام في الحدائق والجراجات. علمت إدارة المدرسة ما جد في حياة الطفلة البائسة, فلم يرض المسئولون أن تصبح إحدي تلميذاتهم مشردة لأسباب ليس لها يد فيها, وتناوب المدرسون والموظفون وسائقو حافلات المدرسة استضافة التلميذة الصغيرة في بيوتهم, ومنحتها المدرسة عملا عاملة نظافة في مدرستها لتكسب بعض المال, فكانت تستيقظ يوميا قبل مطلع الفجر لتغسل الطرقات والسلالم وتنظف فصول المدرسة من الساعة الخامسة حتي الثامنة صباحا, وتحضر بعد ذلك حصصها حتي الثانية عصرا, ثم تقوم بتنظيف حديقة المدرسة قبل أن تبدأ مذاكرة دروسها في المساء. لم تكن الفتاة الأشطر أكاديميا, كانت تحصل علي درجاتها فوق المتوسط بقليل, ولكنها كانت متفوقة في مواد العلوم, فتمت دعوتها لحضور برنامج للطلبة المتفوقين من الولاية في مواد العلوم أقيم في الصيف الماضي في مدينة تبعد كثيرا عن مدينتها التي تقيم بها, فقام المدرسون بمساعدتها بتوصيلها وشراء ما تحتاج إليه من مستلزمات دراسة وملابس. كانت غاية طموح الفتاة الصغيرة أن تنال فرصة لدخول الجامعة لتتجنب مصير والديها, وحين أوشكت علي الانتهاء من تعليمها الثانوي, تقدمت لأربع جامعات حكومية في ولايتها, كما تقدمت إلي جامعة هارفارد حلم الأحلام لكل من يتطلع إلي مستقبل زاهر. وكان ذلك مثيرا حيث لم تعهد مدرستها أن يتجرأ أحد تلاميذها للتقدم للقبول بإحدي الجامعات الأمريكية الكبري. كتب مدرس التاريخ خطاب توصية لجامعة هارفارد شاملا تفاصيل قصتها, فأشار إلي معاناتها الشخصية, وكيف عرفت الفقر والجوع كما عرفت النوم في الشوارع, ولكنها مصممة علي النجاح ومؤمنة بأنها تستحق فرصة في حياة كريمة. وردت الجامعات الأربع الحكومية بقبول الفتاة, وبينما هي تفاضل بينها تلقت ذات يوم بعد انتهاء عملها في تنظيف حديقة المدرسة, خطابا من جامعة هارفارد جاء فيه نحن نفتخر أن نخبرك بأن لجنة القبول بجامعة هارفارد قد قررت قبولك للدراسة في الدفعة التي ستتخرج عام2016, ونحن نرسل هذا الخطاب فقط لمن نراه مميزا من الطلاب المتقدمين. شملت منحه الجامعة جميع مصاريف الدراسة والسكن والطعام, اضافة لتوفير عمل لها داخل الجامعة. احتفل أهالي البلدة بقبول ابنتهم في هارفارد, وعرف الإعلام الأمريكي بقصتها فانهالت البرقيات المهنئة لها من كل أرجاء العالم, وعرض الكثيرون تقديم مساعدة مالية لها, إلا أن طفلة الشوارع رفضت الدعم المادي مؤكدة أن حصولها علي المنحة الجامعية, وتوفير عمل لها هي كل ما تحتاج إليه الآن وللسنوات الأربع القادمة, وإنها تحلم بعد أن تنتهي دراستها, بأن تؤسس منظمة أهلية ترعي الأطفال والتلاميذ المشردين من أولاد الشوارع وتمنحهم فرصا مساوية لفرص أقرانهم من أطفال الشقق والبيوت. هذه هي حكاية داون لوجنز وجوانبها الانسانية المؤثرة كما جاءت في المقال المعنون أطفال الشوارع يدخلون جامعة هارفارد. دعني أحكي لك حكاية مختلفة نوعا ما, بطلها عبد الحميد شتا, شاب مصري يتميز بالطيبة والنبوغ الدراسي, تخرج متفوقا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية, وقام بالعديد من الأبحاث بعضها نال المركز الأول في المسابقات الجامعية, وشارك في المؤتمرات العلمية بالكلية, يكتب في مجلة السياسة الدولية ومجلة الكلية, حصل علي تقدير أساتذته, وأوشك علي الانتهاء من رسالة الماجستير, تقدم للحصول علي وظيفة ملحق تجاري بالسلك الدبلوماسي, اجتاز كل الاختبارات بنجاح( الشفوي والتحريري والهيئة), وكان ترتيبه المبدئي الأول علي43 شابا وصلوا إلي التصفيات النهائية. المفارقة أن ال42 الذين نجحوا معه في الاختبارات كانوا جميعا ضمن برنامج دراسي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية, وكان شتا مكلفا من قبل وكيل الكلية بالاشراف علي الطلبة, أي أنه كان يدرس لهؤلاء الذين ينافسونه علي الوظيفة. كان عدد المقبولين لوظيفة الملحق التجاري42. الوحيد الذي لم يقبل هو عبد الحميد شتا لأنه طبقا لتأشيرة معالي الوزير سليل الباشوات غير لائق اجتماعيا, فكيف يقبل وأبوه فلاح مصري بسيط من قري إحدي محافظات مصر الفقيرة. الرواية الحزينة تقول ان شتا أجري مكالمة لزوجة أخيه أوصي خلالها الأسرة علي شقيقه الأصغر ثم أغلق هاتفه المحمول, واتجه إلي كوبري أكتوبر العابر للنيل وظهرت جثته في اليوم التالي عند القناطر الخيرية. أبناء المصريين البسطاء غير لائقين اجتماعيا, مكانهم قاع النيل بينما يعيش الأغنياء في قصورهم الفارغة علي ضفاف النيل. أقارن بين القصتين, بلاد تعطي الفرصة للمكافحين من أبنائها, تنتشل العقول النابهة من وسط الركام, تنظفها وتصقلها بالعلم والمعرفة, وتشيع في قلوبها الدفء بالحب والرعاية, وتعطيها الفرصة في القيادة, يأتيها شاب أسود, أبوه من مجاهل افريقيا, أصوله إسلامية, ليتولي رئاسة بلاد تؤمن بتمكين الكفء. وفي الناحية الأخري نري بلادا نظامها يقصي الكفء, ويلقي بأجمل شبابها وعقولها في قاع النيل, أبعد كل ذلك نتساءل لماذا نحن متخلفون؟ الظلم والقهر أحرق بوعزيزي في تونس, وأغرق شتا في مصر, أبعد كل ذلك نتساءل لماذا قامت الثورة؟! وهل نعتبر؟ جامعة الإسكندرية