بالأمس سطر اليمنيون صفحة جديدة في حياتهم, فبعد33 عاما من حكم رئيس واحد, اختار اليمنيون رئيسا جديدا ليقود البلاد في مرحلة تتطلب مزيجا من الصبر والعمل الدؤوب والتخطيط الواعي والأولويات المحددة بدقة, ليس فقط من أجل الخلاص من تركة ثقيلة ومحملة بالدماء والدموع, بل أيضا من أجل بناء يمن جديد يقوم علي المواطنة والمساواة والديموقراطية والحرية المسئولة. بهذا المعني سيكون علي الرئيس هادي أن يسير في طريقين متوازيين; الأول هو تفكيك البني السياسية والمجتمعية التي تأسس عليها نظام الرئيس صالح بكل ما فيها من مظالم وحرمان, والثاني هو تشكيل بيئة سياسية إيجابية وبناء مؤسسات تحمل مشروعا نهضويا لليمن بأسره. والحق هنا أن هذه العملية المزدوجة والمركبة معا هي استحقاق ثوري ووحدوي بامتياز, أو لنقل هي العائد الحقيقي الذي تستحقه الثورة اليمنية وتضحيات أبنائها, خاصة أبناء المحافظات الجنوبية الذين دفعوا ثمنا باهظا بعد حرب صيف1994, وتعرضوا لكل أنواع وممارسات الاقصاء والإفقار المتعمد والتخريب النفسي الجماعي والاستعلاء السياسي والاستبعاد المعنوي والعضوي علي السواء. وهي العناصر التي تمثل محفزات الحراك الجنوبي الذي انطلق نهاية العام2006 مطالبا برفع المظالم الاجتماعية الواسعة التي ترتبت علي سياسات الحكم بعد انتهاء الحرب, ثم ما لبث أن تطور الأمر بفعل تجاهل الحكومة اليمنية والرئيس صالح شخصيا معالجة هذه المظالم معالجة صحيحة وشاملة إلي أن يتضمن الحراك الجنوبي دعوات لإعادة بناء الوحدة علي قاعدة الفيدرالية, جنب إلي جنبا تيار آخذ في النمو يقوده الرئيس اليمني الأسبق في الجنوب علي سالم البيض يدعو إلي فك الارتباط واستعادة الشخصية القانونية والمعنوية لدولة اليمن الجنوبي قبل الوحدة. وثمة مفارقة تاريخية صارخة هنا تتعلق بأن الوحدة اليمنية تواجه معضلة البقاء والاستمرار, ولكن علي قاعدة جديدة من المواطنة والتنمية الشاملة وتعويض أبناء الجنوب عن كل ما لحق بهم من أذي وظلم. وإذا استرجعنا قليلا مسارات دولة الوحدة اليمنية منذ العام1990, سوف نجد أنها ركزت علي الأبعاد السياسية والامنية ولم تول اي اهتمام للابعاد الانسانية والاجتماعية المتضمنة في اي مشروع اندماجي وحدوي بين كيانات عاشت سرعات مختلفة من النضج السياسي والاجتماعي. وبالقطع يشكل ذلك معضلة كبري للرئيس التوافقي الجديد, فهو أصلا من أبناء الجنوب ورئيس الحكومة الائتلافية المشكلة وفقا لبنود المبادرة الخليجية هو أيضا من الجنوب, مما يضع عليهما معا عبئا كبيرا لامتصاص كل أسباب الغضب والظلم السائدة بين قطاعات واسعة من اليمنيين. هذا الامتصاص لن يأتي بثماره المرجوة إلا إذا كان مشمولا برؤية متكاملة لبناء الدولة اليمنية الناهضة والمستقرة, والمسنودة بمؤسسات وسلطات ذات أدوار واضحة وتوازن دقيق. وتلك بدورها إشكالية الدستور الجديد المقررة صياغته في غضون عام, يحدد طبيعة السلطة وصلاحيات المؤسسات والعلاقة بينهما, ويحسم نظام الحكم هل سيظل مركزيا في قمته وفق صلاحيات محددة لا تتيح له التسلط والاستبداد كما كان الحال في حقبة علي صالح, ام سيتحول إلي نظام فيدرالي كما يطالب بعض أبناء الجنوب, ام سينص علي نظام للحكم المحلي واسع الصلاحيات. وإذا كانت عملية صياغة الدستور هي عملية توافقية بين كل مكونات المجتمع, وليس للرئيس يد عليا فيها, فالمتصور أن هذه العملية سوف تتأثر بجملة الاجراءات التي سيتخذها الرئيس هادي في الأشهر القليلة المقبلة والتي ستوضح طريقة تفكيره في الخروج باليمن من مأزقه الراهن. فإذا اشتملت هذه الاجراءات علي سياسات عملية وجادة هدفها الاساسي هو رفع المظالم المتولدة عن حرب صيف1994 بالنسبة للجنوبيين, وإنهاء التهميش واستعادة مكانة الدولة في المناطق الشمالية التي ينتشر فيها الحوثيون واحتواء ما يرونه من مظالم تنموية تعرضت لها مناطقهم في السنوات الماضية, وتأكيد المساواة بالنسبة لكل أبناء اليمن وإفساح مجال المشاركة المسئولة في الحكم, عندها يمكن القول إن دعاة الوحدة المسئولة سيكون لهم التأثير الأعلي عند صياغة الدستور المرتقب, وستقل الدعوات إلي إعادة عقارب الساعة إلي الوراء. إن معضلة اليمن بموارده المحدودة وسوء الإدارة والفساد الذي تراكم عبر السنوات, أفسحت نطاقات واسعة للتأثير الخارجي بشقيه الحميد او الضار, وبالقطع اليمن بحاجة إلي توسيع وتنظيم مجال التدخلات الحميدة الهادفة إلي مساعدة علي بناء وطنهم الجديد, ولا بأس هنا أن يكون ذلك وفق مشروع تنموي واسع المدي لعشر سنوات مقبلة, تحدد فيه برامج الدعم والبناء, وتكون له إدارة مشتركة يمنية وإقليمية تحت رعاية الاممالمتحدة أو إحدي وكالاتها التنموية الكبيرة, وأن يكون مشروعا شفافا في كل خطواته حتي يقتنع اليمنيون جميعا بأن هذا المشروع الاقليمي الداعم للدولة هو من أجل اليمن واستقراره وأمنه وفي الآن نفسه من أجل الأمن الاقليمي ككل. وقديما قالوا ما حك جلدك سوي ظفرك. ونقول الآن لن يبني اليمن إلا أبناؤها الأوفياء المخلصون وهم كثر وذوو مهارة وإخلاص للوطن والناس معا.