تبدو احتمالات إقامة السيناريوهات المطروحة للشكل المستقبلي للدولة الليبية نظرا للفاعلية الملحوظة للتيار الإسلامي خلال ثورة17 فبراير في ليبيا, والانتشار الواسع لذلك التيار علي امتداد البلاد, وأيضا عدم قدرة المجلس الانتقالي علي الحد من اندفاع هذا التيار في صدارة المشهد السياسي. ذلك الأمر يؤكد أن محاولة استبعاد أي حركات ذات توجه إسلامي في المرحلة السياسية المقبلة سيؤدي إلي عدم استقرار للنظام السياسي القادم, خصوصا أن كل القوي الإسلامية التي لعبت دورا في سقوط القذافي مسلحة وتنبثق من عائلات وعصبيات كبيرة. فعلي الرغم من وجود بعض التحديات أمام الإسلاميين في ليبيا, فإنه تبقي أمامهم فرصة إقامة انتخابات ديمقراطية حرة وشفافة قد تقودهم للسلطة. فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي مؤشرات صعود التيار الديني؟, وما هو السيناريو المتوقع في حالة إخفاق أو صعود ذلك التيار علي مستقبل الدولة في ليبيا؟ أولا: خريطة الحركات الإسلامية الليبية؟ تتوزع خريطة الحركات الإسلامية في ليبيا بين أربعة تيارات رئيسية, يمكن القول إنها تشكل أساس الحركة الإسلامية الليبية, وتتمثل أبرزها في الجماعة الإسلامية للتغيير التي نشأت قبيل ثورة السابع عشر من فبراير كبديل معتدل للجماعة المقاتلة المنحلة, وجماعة الإخوان المسلمين, والجماعات الصوفية التي تقودها الحركة السنوسية التي تتخذ من منطقة الجبل الأخضر معقلا تاريخيا لها, والتجمع الإسلامي الليبي الذي يتخذ من جنيف مقرا له, ويفكر في العودة بعد سقوط نظام القذافي. 1 الحركة الإسلامية للتغيير: قامت هذه الحركة بديلا للجماعة الإسلامية المقاتلة, بعد سلسلة مراجعات وتطورات في الداخل وفي دول الجوار, وعلي مستوي الجماعة نفسها. وأعلن بشكل رسمي عن إقامة الحركة في15 فبراير الماضي قبل يومين فقط من اندلاع ثورة17 فبراير. وقد تأسست من قبل بعض قادة ونشطاء الجماعة السابقة بالمنفي, خاصة القيادي بالحركة والجماعة السابقة وعضو مكتبها السياسي, أنيس الشريف, المتحدث باسمها والمقيم بالعاصمة البريطانية لندن, ولم تعلن الحركة حتي الآن عن كل قياداتها, لكنها تمهر بياناتها وتصريحاتها الصحفية بتوقيع المكتب السياسي للحركة. ومسار هذه الجماعة مختلف عن سابقتها, الجماعة المقاتلة الليبية, والتي كانت ذات توجه جهادي, وارتبطت في البداية بتنظيم القاعدة, وخاضت مواجهات عسكرية مع نظام القذافي, انتهت باعتقال أعضاء الجماعة, دخلت بعدها في حوارات مع نظام القذافي طيلة السنوات الأخيرة, أسفرت عن اعتمادها مراجعات نبذت العنف, وأدت إلي إطلاق أعضائها من السجون في العام الماضي. 2 جماعة الإخوان المسلمين: تعد جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا امتدادا للجماعة الإسلامية التي تأسست في1968, لكن لم يعلن عن الجماعة باسمها الحالي إلا في ثمانينيات القرن الماضي, بعد أن أعيد تشكيلها في الخارج من جديد, عقب المطاردات التي تعرضت لها من قبل نظام القذافي. ولا تستخدم الجماعة كلمة المرشد لزعيمها, كما هو الحال في الجماعة الأم بمصر, ولكنها تطلق عليه المراقب العام للجماعة. وللجماعة موقع إلكتروني هو المنارة, ونشرة ليبيا اليوم الإلكترونية ايضا, وهي تدعم منظمات حقوقية, منها جمعية التضامن ومنظمة الرقيب لحقوق الإنسان. ومع محاولات الإصلاح التي كان يقوم بها سيف الإسلام نجل القذافي, حاولت الجماعة التقرب إلي السلطة من أجل المراهنة علي رغبة النظام في الإصلاح, لكن رهانها فشل, ولم يتمكن قادتها من العودة إلي الوطن. ومع انطلاق ثورة السابع عشر من فبراير, كان للجماعة حضور لافت تمثل في دعمها للمجلس الانتقالي, ومشاركة بعض رموزها في تأسيس المجلس, مثل الدكتور عبدالله شامية, أستاذ الاقتصاد بجامعة بنغازي( قاريونس سابقا) الذي تولي الملف الاقتصادي في المكتب التنفيذي للمجلس الذي كان يرأسه محمود جبريل وأخيرا, عقدت الجماعة مؤتمرها العام الأول في ليبيا ببنغازي, اختارت فيه بشير الكبتي مراقبا جديدا, خلفا للمراقب السابق سليمان عبدالقادر. كما أقر في هذا المؤتمر تشكيل حزب سياسي يشارك فيه الليبيون جميعا للإسهام في عملية التحول الديمقراطي, والمشاركة في الانتخابات المقبلة في البلاد, وذلك لمواجهة متطلبات المرحلة المقبلة بحسب البيان الختامي لمؤتمر الجماعة. 3 التجمع الإسلامي: تأسس في1992 في مدينة جنيف السويسرية, وكان يقوده عبدالوهاب الهلالي, ويتخذ موقعا وسطيا بين الإخوان والمقاتلة وللحركة ميثاق, وهيكل تنظيمي, ولوائح داخلية تنظم وتحدد وتوجه نشاطها وتوجهاتها, وتنظم العلاقة بين القاعدة والقمة وقد فقدت الحركة معظم قياداتها وأعضائها في مذبحة بوسليم1996 وتدور الفكرة المركزية للتجمع الإسلامي حول تأسيس تنظيم إسلامي يتوافق مع طبيعة المجتمع الليبي, معتمدة علي أبناء الحركة الإسلامية الليبية التي تقود المجتمع وتدفعه للتغيير. ويفكر أعضاء الجماعة حاليا بعد العودة من الخارج في المشاركة في العملية السياسية الجديدة, لكنهم باتوا مشتتين بين التيارات السياسية الوليدة في البلاد بسبب سيطرة تيارات السلفيين والإخوان المسلمين, ورغبة العديد من أعضائها في المشاركة مع قوي أخري في تأسيس احزاب سياسية مدنية تناسب المرحلة الجديدة. 3 الصوفية: تعد هذه الحركة الأقدم بين تيارات الإسلام السياسي في ليبيا, واللاعب السياسي الأبرز فيها هو السنوسية الصوفية, التي أسسها في1937 محمد بن علي السنوسي, وانتشرت في ليبيا انطلاقا من المناطق الشرقية عن طريق شبكة من الزوايا الدينية وأدت الصوفية السنوسية دورا سياسيا في ضبط النزاعات القبلية, إذا وحدت الصوفية السنوسية القبائل الليبية, وعلي رأسها شخصيات أسطورية, مثل عمر المختار, والملك إدريس الأول, في مواجهة قوي الاحتلال الإيطالي. ومع وصول القذافي للحكم, تفككت السنوسية عمليا علي المستوي الرسمي علي الأقل لأنها مؤيدة للملكية, لكنها ربما ستجد صعوبة في العودة السياسية من جديد, في ظل سيطرة السلفيين والإخوان المسلمين, ورغبة اتباعها في الانكفاء علي الذات, خاصة انها فقدت الكثير من كوادرها خلال حقبة القذافي. ثانيا: الموقف من المجلس الانتقالي: لم تبد أي من الحركات الإسلامية أي نوع من الاعتراض علي المجلس الانتقالي الذي تشكل في بدايات الثورة الليبية, وسارعت هذه الحركات في مساندة وتأييد المجلس الانتقالي في مواجهة نظام القذافي, وشارك العديد منهم في تأسيسه, مثل الإخوان المسلمين, وبعض قادة الجماعة المقاتلة, مثل عبد الحكيم الحصادي الذي كان ممثلا لمدينة درنة بالمجلس, كما ساندوا المكتب التنفيذي للمجلس الذي كان يديره محمود جبريل. ومع تطور الأحداث واقتراب نهاية نظام القذافي, بدأ عدد من الإسلاميين في الاعتراض علي أداء المجلس الانتقالي ومكتبه التنفيذي, حيث وجه علي الصلابي, عضو المجلس, والمقيم في قطر, انتقادات شديدة لمحمود جبريل, لاختياره مقربين في إدارة المكتب التنفيذي, وهو ما رآه الصلابي سعيا لتأسيس ديكتاتورية جديدة في ليبيا, مبديا اعتراضه علي عدم مشاورة القوي الوطنية الفاعلة. كما نشر عبد الكريم بلحاج مقالا في صحيفة الجارديان في منتصف أكتوبر الماضي, حذر فيه من مغبة إقصاء الإسلاميين من السلطة, وهو مايمكن القول معه إن الإسلاميين باتوا يخشون من استئثار الليبراليين علي ليبيا الجديدة. كما أسهمت المساندات الخارجية لليبيين إبان الثورة كثيرا في أجواء التوتر التي باتت هي السمة التي تطبع العلاقة بين المجلس الانتقالي والتيارات الإسلامية خلال الفترة الأخيرة, مما خلق حساسية كبيرة بين الجانبين,ظهرت في تشكيلة حكومة عبد الرحيم الكيب التي ستدير الفترة الانتقالية, رغم أنها لم تلق اعتراضا كبيرا من الإسلاميين عكس غيرهم. وهو ماقد يعني أن إسلاميي ليبيا باتوا يفكرون في العملية السياسية الجديدة بتمعن وتمهل, وينتظرون الانتخابات المقبلة, التي قد تأتي بهم من خلال عملية ديمقراطية. ثالثا: رؤية الإسلاميين للمرحلة الانتقالية: من الملاحظ أن هناك توجها انفتاحيا من قبل الإسلاميين في ليبيا, مغايرا تماما لما كان قبل ثورة17 فبراير, جعل هذا التيار يفكر بجدية في ضرورة التمهل في التفكير من أجل الإعداد للمرحلة المقبلة. ويلاحظ ذلك من خلال عدم المزاحمة أو التسابق علي المناصب في الحكومة الجديدة, إذ أن حكومة الكيب التي أعلن عنها في22 نوفمبر قد غاب عنها إسلاميون بارزون كان يتوقع أن يحصلوا علي مناصب في تشكيلتها,مثل عبد الحكيم بلحاج. ويبدو أن أجواء الانفتاح التي تعيشها ليبيا حاليا قد أسمهت كثيرا في إقناع الإسلاميين بضرورة تغليب الصراع السياسي علي العنف والعمل علي ترسيخ الدولة المدنية, في ظل بيئة ليبية معتدلة ومتجانسة. وقد سارع الإسلاميون في ليبيا الي طمأنة الخارج علي مستقبل ليبيا, وأكدوا رغبتهم في الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولهذا عبر عبد الكريم بلحاج في الجارديان منتصف أكتوبر الماضي عن إيمانه بالديمقراطية وحقوق الإنسان, مؤكدا توبته عن ماضيه الجهادي. ويسعي الإسلاميون الي ضرورة أن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للحكم القادم في ليبيا وهو مايتفق مع طرح مصطفي عبد الجليل, رئيس المجلس الوطني الانتقالي, خلال إعلان التحرير في أكتوبر الماضي, والذي أقر فيه أن الشريعة الإسلامية ستكون المصدر الرئيسي اللتشريع في ليبيا.... كما يعمل إسلاميون حاليا علي تأسيس أحزاب سياسية ذات مرجعية إسلامية, مثل جماعة الإخوان المسلمين, والجماعة الليبية للتغيير, إضافة الي أن هناك أيضا ليبراليين يسعون كذلك الي إقامة أحزاب سياسية ذات مرجعية دينية, مثل حزب العدالة والتنمية الليبي الذي أسسه الهادي شلوف أستاذ القانون, وكذلك حزب المحافظين الذي أسسه أحمد المغربي. رابعا: تحديات الحركات الإسلامية في ليبيا: هناك عدد من التحديات التي ربما قد تواجه الحركات الإسلامية في ليبيا الجديدة, ربما تكون عائقا في التواصل, أو تحد من قدرتهم علي الهيمنة السياسية وهي: 1- التنافس الكبير بين هذه الحركات وبعضها, مثل الإخوان المسلمين, والجماعة الإسلامية للتغيير, والتجمع الإسلامي. 2- التجانس الديموغرافي الموحد في ليبيا التي تدين بالإسلام علي المذهب السني في غالبيتها, رغم وجود عدد قليل من أتباع المذهب الإباضي بالجبل الغربي. 3- إصرار عدد كبير من الثوار الإسلاميين علي الاحتفاظ بسلاحهم, رغم انتهاء الحرب, وإصرارهم علي عدم تسليم السلاح إلا بعد انتهاء المرحلة الانتقالية, والشروع في عملية سياسية ديمقراطية, وهو ما يثير تخوفات نحو نياتهم من قبل الأطراف الخارجية والداخل الليبي. 4- علاقة الإسلاميين بأطراف خارجية وقوي إقليمية, أو حتي غربية, وهو ما يجعل البلاد مخترقة علي الدوام, ويصعب من تحقيق عملية سياسية شفافة وذات مصداقية لليبيين في الداخل. 5- التركيبة القبلية التي تميز ليبيا, خاصة أن هناك قبائل معينة لاتزال تشكك في نيات الإسلاميين, مثل قبائل ورفلة, والقذاذفة, والمقارحة, وأولاد سليمان, وهم جميعا ممن يتمركزون في المنطقة الغربية وإقليم فزان في الجنوب. 6- الاختلاف الملحوظ بين هذه التيارات في شرق البلاد وغربها في نمط التفكير وفي العلاقة مع الخارج ومصادر القوة, خاصة أن من في الشرق ربما يكونون مترابطين أكثر ممن هم في الغرب. خامسا: سيناريو الدولة الدينية: يوحي التحليل الدقيق للأوضاع السائدة في الداخل الليبي بأن فرص إقامة دولة دينية في ليبيا لا تبدو بالدرجة المتوقعة, نظرا لغياب الرؤية الموحدة حول مستقبل ليبيا بين هذه التيارات, وتياين المواقف حول الشكل المتوقع للنظام السياسي الذي ستكون عليه ليبيا, وافتقار هذه التيارات للتنظيم الجيد, مثل بقية القوي والتيارات الأخري, حيث لا تزال تعاني قصورا شديدا في العملية التنظيمية وتفتقر إلي هيكل قيادة واضح ومحدد المعالم. يضاف إلي ذلك, تباين اختلاف وجهات النظر داخل التيار الواحد ما بين التشدد والاعتدال, كما هو الحال بين كل من أسامة الصلابي, قائد إحدي كتائب الثوار في بنغازي, وشقيقه علي الصلابي, حيث يعد الأول أكثر تشددا من الثاني, رغم اعتناقهما للأفكار نفسها. وتلعب التحديات السابقة دورا كبيرا في ارتباك التيار الإسلامي بين الحين والحين, وهو ما يمكن استقراؤه من عدم وضوح رؤاهم تجاه المستقبل وتجاه التيار نفسه, إن كانت ستشكل أحزابا مستقلة بها, أم أنه سيتعين عليه مشاركة الآخرين في التنظيمات والأحزاب السياسية. علي أي حال, لاتزال القوي الإسلامية في ليبيا لم تبلور رؤاها للمرحلة القادمة, عدا جماعة الإخوان المسلمين التي قررت المشاركة مع آخرين في تشكيل حزب سياسي, وهو ما قد يجعل من سيناريو إقامة الدولة الدينية في ليبيا أحد أقل السيناريوهات احتمالا.