لقد أصبح الشباب سوقا للنخاسة بهم, وأصبح الجيل الذي انعقدت عليه كل الآمال مطية يستخدمها الجميع ويتاجر بها الجميع ويزايد عليها الجميع. مضي عام علي تنحي الرئيس السابق, ومازالت أذكر كيف كانت تلك الفرحة العارمة لشعب توحد بجميع طوائفه حول هدف واحد وهو إسقاط النظام وإقامة نظام جديد يقيم العدالة ويحقق الحرية والكرامة للمصريين جميعا بلا استثناء. لقد كان المصريون جميعا في قمة السعادة, وبدا لهم أن الحلم قد أصبح قريب المنال, الكل متحمس ومشارك بإيجابية, الكل يتحدث في السياسة والكل يضع رؤي مستقبلية لهذا الوطن العزيز, وحلمت معهم, وكان حلمي أن أري مصر علي سطح القمر في أقل من عشر سنوات, ولم لا؟ لقد بدا لي هذا الجيل الرائع من الشباب وكأنهم قادرون علي فعل أي شئ, فماذا ينقصنا إذن؟ لدينا خبرات الشيوخ وحماس الشباب, ولدينا شعب بدا وكأنه متصالح مع ذاته ومتسامح ومتوحد مع جيشه, لم نسمع شعارا دينيا طيلة18 يوما, لم نسمع عن فئة ادعت فضل السبق والريادة وطلب المغانم والقيادة, بدونا جميعا ككل في واحد وواحد في كل, فمن ذا أو ما ذا الذي يستطيع أن يعيق حركة هذا الشعب العظيم الرائع الذي أبهر العالم وأسقط نظاما لم يكن أحد يتخيل أن يسقط بتلك السرعة ولا بتلك الطريقة. و تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن, فلم يمض أسبوع واحد علي هذا اليوم إلا وبدأنا نري مشهدا مغايرا تتجلي فيه كل أشكال الانتهازية والإقصاء والانتقام, مظاهرات فئوية في كل مكان بمصر, ودعوات تطلق بإقصاء كل من خدم مع النظام السابق دون تفرقة بين من فسد وأفسد ومن عمل وأصلح, وتجلت الرغبة الانتقامية من الجميع, وبدأت نغمات السبق والفضل للتحرير, وعنوان ثورة الشباب وشباب الثورة, وأن مصر ولدت لتوها في الميدان بلا تاريخ نضالي إلا تاريخ25 يناير. فانتظرنا أن تتوافق القوي السياسية علي رؤية لمستقبل هذا الوطن تتيح للقوي الأساسية, إسلامية وليبرالية وعسكرية الانطلاق بنا نحو آفاق أفضل توظف تلك الطاقات الجبارة التي أفرزتها الثورة لتصنع الوطن الجديد, ولكن بكل أسف, بدأ مصطلح القوي الثورية في الظهور, أي قوي هذه ومن هم وقد ثار الشعب بأكمله؟ رد علينا بأنها الطليعة الثورية التي لها السبق والفضل في كل شئ, وماذا عن الشعب الذي أيد وساند وتظاهر وحمي تلك الطليعة ولولاه لكانت تلك الطليعة في خبر كان؟ لا أحد يعيرك انتباها, فقد بدأت قوي أخري في الدخول علي الخط, قوي إعلام الثورة, ويا للعجب, يطلون علينا من فضائيات رجال أعمال مبارك كأبطال يديرون مصنع إنتاج أبطال جدد, يتناوبون الظهور علي وسائل الإعلام وفي جميع فضائياتها, بدأوا بالهجوم علي الفلول لاكتساب الشرعية الثورية وهم نصفهم علي الأقل من الفلول المباشرة والنصف الثاني من الفلول غير المباشرة إما بالعمل مع الفلول المباشرة أو احتراف معارضة الفلول بأجر باهظ كجزء لا يتجزأ من معادلة الهوهوة في النظام البائد, ثم تطور الحال بالهجوم علي الإسلاميين إبان الاستفتاء, ثم الهجوم علي العسكر بعد جمعة8 إبريل الشهيرة, وخطابهم يبدأ دائما بتمجيد وتقديس الشباب من عاش منهم ومن استشهد, ثم بالتنديد بالعواجيز وهم أغلبهم من الكهول ثم بسب أي طرف آخر, وتوالي الفرز الانتقائي أو الإقصائي بين جمعة وأخري, فمن لا يشترك في الجمعة التالية يتم تفليله فورا, ومن لا يشترك في سب الإسلاميين والعسكر والقضاة والدولة فهو خائن للثورة وللثوار ولدماء الشهداء. وفي وسط هذا كله, بدأت دعاوي إسقاط حكومة شرف الذي اختاره الميدان بديلا عن الفلولي شفيق, فقام السيد شرف بفتح صفحة علي الفيسبوك لتلقي الترشيحات عليها وتلقي الإقصاءات عليها أيضا في ظاهرة لم تحدث في التاريخ, ليشكل شرف وزارته الثانية وقد تخلص فيها من الفلول, ولم تفلح وزارته الأولي ولا الثانية, واقترب موعد الانتخابات البرلمانية بعد جدل عقيم حول الدستور أولا أو البرلمان أولا وكلاهما يفضي لذات الشئ في نهاية المطاف, لندخل في محاولات تصنيع ثورة ثانية والمناداة برئيس انتقالي تواكبها أحداث مريرة في محمد محمود وسقوط شهداء جدد علي مذبح الثورة الثانية, ليضرب المشير بكل هذا عرض الحائط ويشكل حكومة إنقاذ بتكليف الجنزوري المخضرم فتنفض الثورة الثانية إلا عن بقايا من الشباب تتجه باعتصامها إلي مجلس الوزراء بعد أن خلا الميدان ليبدأ مسلسل أحداث مجلس الوزراء والمجمع العلمي لندخل فورا إلي استعدادات ثورة الغضب الثالثة في يناير بمطلب جديد بعد انتخابات البرلمان وهو تسليم السلطة لرئيس مجلس الشعب في سابقة خلط دستوري تنفيذي غير مسبوقة أيضا لتنتهي إلي لا شئ كعادتها وصولا إلي أحداث بورسعيد الدامية فتبدأ إدانة الجيش علي الفور, ولما لم ينطل هذا علي أحد, بدأ الهجوم علي الداخلية مرة ثانية بحجة الغضب لشهداء بورسعيد وعلي إثرها تبدأ الدعوة إلي عصيان مدني حتي يتم تسليم السلطة فورا إلي سلطة مدنية غير محددة هذه المرة بعد رفض مجلس الشعب تسلم السلطة وذلك لكسب شهر واحد طبقا لآخر ما أعلنه المجلس عن بدء الانتخابات الرئاسية في10 مارس, ما هذا؟ وما الذي يحدث؟ وأين الشباب في كل هذا ودورهم فيما عدا التضحية المعتادة بهم في الميادين, لا أحد يدري؟ لقد أصبح الشباب سوقا للنخاسة بهم, وأصبح الجيل الذي انعقدت عليه كل الآمال مطية يستخدمها الجميع ويتاجر بها الجميع ويزايد عليها الجميع. كيف السبيل إلي استخدام تلك الطاقة المبهرة التي أهملها النظام البائد وهمشها وحرمها من أبسط الحقوق حتي لم يجد غير الانضمام إلي ألتراس لتفريغ طاقاته المحبوسة؟ لا مجيب, لتنضم تلك الفئة العمرية المدهشة التي ما زالت بحاجة إلي الترشيد والتثقيف والتمكين إلي مجرد فرصة ضائعة تضم إلي رصيد ثورة الفرص الضائعة وعصيان الفرصة الأخيرة, الضائعة أيضا بكل تأكيد.