رائحة الهواء المشبعة بالفسفور, تهب مداعبة وجنتي, نفير السيارات المارقة علي شارع الكورنيش, تتقاطع مع حالة الهيام الأبدية مع المكان ذكريات تتراص أمامي دفعة واحدة. تغرقني في أتون لحظات كانت يومها بمثابة أحلام عريضة كرحابة الكون كله وسامية كسمو السماء في بعدها عن الأرض, كان نفس الكورنيش شاهدا علي لحظات ميلاد الحلم ومراحل نموه, وكذلك لحظات انكساره وهزيمته, لكنه عشق المكان والناس والهواء والماء والصخور النائمة علي حافة الشاطئ نوما أبديا والنوارس البيضاء وهي تتهادي علي صفحة المياه, كل ذلك باق في الذاكرة هو كما هو رغم مرور عشرات السنين كأنه بالأمس حدث. اقترب من مسجد القائد إبراهيم, الشاهد التاريخي علي ثورة شباب مصر الأبرار وبالذات شباب الأسكندرية, ومازالت روائح الثورة المباركة تفوح شيء مايشعرني بعلاقة المكان بالحرية والرجولة والأحلام البعيدة باتساع مياه البحر, بينما أقترب من ساحة المسجد, ألمح ومن علي بعد, إنه ثمة إمرأة منتقبة تتابع خطواتي وتحدق في بتركيز شديد, كلما اقتربت خطواتي منها يزداد تركيزها مما جعل خطواتي تتثاقل وأشعر بحالة من الريبة والخوف, أحاول تقريب المسافة بيني وصديقي أبو عبد الله وأخي أبو عبد الرحمن, لكنني لم أفلح, هجمت علي هجمة شرسة, كطفل عثر علي أمه بعد طول غياب, وقفزت نحوي وهي تردد بصوت مبحوح تفوح منه رائحة الوجع والألم مختلطة برائحة الماء المالح, كلمات هي خليط بين البكاء والضحك والهوس:- مصطفي ولدي حبيبي.... مصطفي ياحبة عيني أنت رجعت يا حبة عيني... أنا هنا كل يوم بستناك من ساعة ماضعت مني وراحت تضمني ضمة قوية وعنيفة وهي تهذي بكلمات غير مفهومة. وأجتمع المارة كل المارة من هول الموقف يرقبون تفاصيل المشهد الشديد الغرابة وسط حالة الذهول والتي انتابتني أحاول التملص من بين ذراعيها بلا جدوي محاولا شرح الموقف لمن هم حولي بأنني لست مصطفي لكن يلا فائدة, وسط تعاطف صديقي وأخي وكل المارة والذين شاركوها البكاء والنحيب, تبين أن البعض يعرف حكايتها بالذات وهم يرونها وهي تقف في نفس المكان يوميا, فمنذ يوم28 يناير وإبنها مصطفي اختفي بحثت عنه في كل المستشفيات والمعتقلات وكل الشوارع والأزقة وحواري الأسكندرية كلها, ولم تجده ولم تجد حتي جثته, وبعد أن أضناها البحث أخذت تأتي كل يوم هنا في ساحة المسجد, تحضر كل الوقفات والتظاهرات وتحدق في كل الوجوه, والآن عثرت علي ضالتها في ذلك الزائر العاشق للمكان والناس والجماد في هذه المدينة انا سعيد الحظ وتعيسة في آن واحد, وأنا الوحيد في ذلك الكون شبيه مصطفي بالتمام والكمال, عبثاي ضاعت محاولاتي مع نسمات البحر الباردة, وشئ ما جعلني أستسلم لقدري وأشاركها طقوس اللحظة كما يجب وينبغي, أدركت لوعتها وعذابها, فقت من حالة الذهول ورحت منهمكا في البكاء ومن كل مشاعري ودموعي سالت كسيل جارف, كل ذلك الكم من الحزن القديم والمكتوم بداخلي خرج الآن من القمقم, كل البكاء المؤجل من عشرات السنين خرج ساخنا ملتاعا وسط حالة من الاستغراب من صديقي وأخي. كان قرار الكل أن نذهب معها للبيت حتي تهدأ وتفهم الحقيقة, شجعني أخي وصديقي للذهاب جبرا للخواطر, ليس بعيدا من مسجد القائد إبراهيم تقطن ولولا سيارة صديقي لمشينا المسافة علي الأقدام, وهناك في البيت ووسط ذهول بنتيها وحالة الحرج التي سيطرت عليهما, حاولتا تقديم الاعتذارات الكثير رغم اعترافهما أن أمهما علي حق فالشبه كبير جدا جدا ولولا تلك الحسنة الصغيرة جدا والموجودة أسفل شاربه من الناحية اليسري لقلنا أيضا نحن أنت شقيقنا مصطفي, قلت علي العموم ليس لدي مانع أن أكون ذلك الشقيق بل وسأكون أكثر سعادة لأنني أشبه الشهيد الذي دفع عمره من أجلي وأجل الكل, من الآن أنا تحت أمركم شقيقكم الذي أرسله لكم القدر, شقيقكم الذي يعشق مدينتكم وناسها وكل شئ فيها بما في ذلك أنتم, لقد هبطت كلماتي علي مسامعهن بردا وسلاما, وكأنه القدر أراد أن يعوضهن في ذلك المصاب قبل أن نستعد للرحيل وفي حجرة مجاورة للتي أجلس فيها أنا وصديقي وأخي دخلت لكي أودع الأم والتي مازات مصرة علي أنني مصطفي كانت تجلس في الحجرة دون نقابها وبدا وجهها بائنا جليا كالقمر الحزين إستقبلتني هكذا علي أنني مصطفي, ما أن وقعت نظراتي علي ذلك الوجه حتي كدت أسقط علي الأرض وصرخت بأعلي ماأوتيت من قوة حتي إنني خلت أن المنشية كلها ومعها البحر والهواء والصخور سمعوا صرختي والتي إرتجفت لها الشقيقتان, قلت:- ياخويا تعالي إجري دي.... أمك رجعت تاني والله أمك فاطمة رجعت تاني, كأنها هي بالخالق الناظر, كل شيء فيها كأمي, هذه المرة ودون أن أدري أخذتها بين ذراعي ورحت أقبل رأسها ويديها, وأقول واحشاني يأمه فاطمة, كل ذلك يحدث وبنتاها في حالة تامة من الذهول, من جيبي أخرجت صورة أمي وناولتها لمنال وهبه حدقتا في الصورة ثم وجه الأم, تقدمتا نحوي وفردت كل واحدة ذراعيها قبل أن يستعد شقيقي وصديقي أبو عبد الله لمغادرة المنزل كنت قد قررت أن أتقدم بطلب للنقل والعمل بالإسكندرية بجوار أمي وشقيقتي. عبد الفتاح عبد الكريم الأقصر