عاد الدب الروسي كي يعيد أمجاد الاتحاد السوفيتي المنهار أو الإمبراطورية الروسية القيصرية البائدة.. تكررت هذه العبارة كثيرا علي لسان السواد الأعظم من المحللين الاستراتيجيين في روسيا. بل وفي شتي أرجاء المعمورة, وذلك مع تولي فلاديمير بوتين رئاسة هذه الدولة الفريدة في تاريخها وجغرافيتها للمرة الأولي في عام ألفين, ثم وصل الاحتفاء بهذه العبارة إلي ذروته عندما توغلت القوات الروسية في الاراضي الجورجية في شهر أغسطس من عام ألفين وثمانية, وذلك في تحد سافر للغرب عموما, وللولايات المتحدةالأمريكية علي وجه الخصوص وبشكل لم يسبق له مثيل منذ أيام الحرب الباردة. منذ ذلك الحين بدأت الكتابات تتوالي عن سعي بوتين الإبن البار للمؤسسة الاستخباراتية السوفيتية السابقة إلي جعل بلاده قوة عظمي يحسب لها العالم ألف حساب خاصة مع صعود أسعار النفط الذي تعد روسيا من أكبر منتجيه ومصديريه علي وجه البسيطة إلي أعلي مستوياتها في التاريخ الاقتصادي الحديث, وذلك علي نحو اتاح للنظام الروسي المستأسد ثروة هائلة لم تكن لتخطر بباله في هذا التوقيت السياسي الدقيق. باختصار منذ عام ألفين وثمانية, بدأ جمهور المراقبين يعتقدون إعتقادا جازما بأن الدب الروسي شرع في الخروج من سباته العميق. علي طرف النقيض لكن الآن, صار هناك من يتحدث عن أمور تصب علي طرف النقيض تماما من طموحات بوتين فيما يتعلق بهذا الصعود الروسي المنتظر, إذ يري فريق من الخبراء أن ماتشهده روسيا الآن من صعود سياسية واقتصادي ليس إلا بمثابة وهج الشمعة الأخير, وإن الدولة الروسية تواجه في حقيقة الأمر تحديات سياسية واقتصادية وعسكرية واجتماعية أقل ما يقال عنها أنها خطيرة, هذا إن لم تكن مدمرة. نقطة ضعف كبري أكثر من ذلك فإن هناك من يؤكد أن نقطة الضعف الاستراتيجية الكبري بالنسبة إلي روسيا هي نفسها مصدر قوتها الاقتصادية الأكبر الآن.. ألا وهو النفط. وحسب وجهة النظر هذه, فإن التاريخ يقول لنا إنه لاتوجد إمبراطورية أو قوة عظمي بنت مجدها علي انتاج وتصدير سلعة واحدة فقط مهما كانت الأهمية الاستراتيجية لهذه السلعة, وأنه لو كانت موسكو تطمح إلي بناء مجد سياسي استراتيجي طويل الأمد إعتمادا علي النفط والغاز فإن هذا الأمر قد يكون أقرب إلي المستحيل. فقد برهن تاريخ النفط علي أن أسعار هذه السلعة الحيوية شديدة التقلب, إذ هوت هذه الاسعار من علياء المائة وخمسين دولارا تقريبا في عام ألفين وثمانية إلي مستوي الثلاثين دولارا تقريبا في عام ألفين وتسعة, وذلك جراء تداعيات الأزمة المالية العالمية. ويكفي أن نعرف في هذا الصدد, أنه لكي يكون في وسع الحكومة الروسية تحقيق توازن في الموازنة العامة للدولة, فإنه يتعين أن يكون سعر برميل النفط سبعين دولارا للبرميل. ولعل هذا مايفسر كيف هوت أسعار الأسهم في سوق الأسهم الروسية بأكثر من سبعين في المائة إبان تلك الفترة الاقتصادية والمالية العصيبة. انهيارات بالجملة فعلي سبيل المثال هوي سهم شركة ترانسنفت الروسية العاملة في مجال نقل النفط من مستوي2025 دولارا في شهر يناير من عام2008 إلي270 دولارا فقط بعد تهاوي أسعار النفط العالمية. كما خسرت شركة جازبروم الروسية التي تحتكر قطاع الغاز الطبيعي في الدولة أكثر من ثلثي قيمتها السوقية خلال هذه الفترة أيضا, وبالمثل هبط سهم شركة لوك أويل من مستوي مائة وثلاثة عشر دولارا إلي اثنين وثلاثين دولارا. وقد ترتب علي هذا الأمر انهيار الفقاعة العقارية في البلاد وهي الفقاعة التي كانت مرتبطة بصعود أسعار النفط, ومن ثم سرعان ما تداعت عندما تداعي سعر النفط في الأسواق العالمية. هذا بالاضافة إلي تداعيات هذه التطورات بالنسبة إلي الاستثمارات الاجنبية العاملة في البلاد وهو مادفع الحكومة الروسية إلي تخفيض عملة البلاد الوطنية11 مرة خلال هذه الفترة. اقتصاد تحت رحمة النفط باختصار فإن الاقتصاد الروسي سيظل دائما وأبدا تحت رحمة أسعار النفط العالمية طالما ظل معتمدا اعتمادا مفرطا علي سلعة بعينها, وهي النقطة التي يدركها الغرب جيدا علي مايبدو في أي تخطيط استراتيجي ضد الدب الروسي. وربما يكون الأخطر من هذا كله هو تداعيات هذا الأمر بالنسبة للمستوي المعيشي للطبقة الوسطي الروسية, وبصورة قد تنذر باهتراء النسيج الاجتماعي للدولة. وتؤكد تقديرات الأممالمتحدة أن متوسط عمر السكان في روسيا يبلغ الآن تسعة وخمسين عاما بالنسبة للرجال. أي أن الدولة الروسية تحتل مرتبة متأخرة للغاية في الترتيب العالمي في هذا الصدد وهي المرتبة رقم166. تحذيرات وقد وصل الأمر إلي حد تحذير جينادي بوربوليس أحد المساعدين المقربين للرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسين من أن روسيا يمكن أن تتفكك بنفس الطريقة التي تفكك بها الاتحاد السوفيتي السابق قبل حوالي عشرين عاما, وذلك إذا لم يتم تحديث الدولة. وأوضح بوربوليس الذي يوصف بأنه أحد مهندسي الاصلاحات في روسيا في أوائل تسعينيات القرن المنصرم أن روسيا تعاني من غياب الممارسات الديمقراطية, وحريات الإعلام والمجتمع المدني. وأوضح بوربوليس أنه بدون تعزيز الديمقراطية وتبني إصلاحات اقتصادية طويلة الأجل لتحديث الاقتصاد الروسي والبنية التحتية الروسية المتقادمة فإن شبح انهيار الدولة الروسية سيطل رأسه بقوة. بل إن هناك من يحذر من احتمال انهيار الدولة الروسية البالغ عدد سكانها حوالي139 مليون نسمة في وقت اقرب مما قد يتوقعه كثيرون وربما بنفس الطريقة التي تفكك بها الاتحاد السوفيتي السابق. المسمار الأول ويقول هؤلاء الخبراء إن الأزمة الاقتصادية العنيفة التي ضربت البلاد في عام1998 كانت بمثابة المسمار الأكبر في نعش هذه الدولة حيث نشرت هذه الأزمة الفقر والبؤس علي نحو يعود بالأذهان إلي ماحدث في الولاياتالمتحدة من خراب اقتصادي إبان الكساد العظيم في آواخر عشرينيات القرن المنصرم. فقد أسفرت هذه الأزمة عن خسارة ملايين الروس ودائعهم في البنوك, كما أنه خلال هذه الأزمة التي اندلعت في السابع عشر من اغسطس من عام1998 أعلنت الحكومة الروسية عجزها عن سداد الديون الخارجية المتراكمة علي الدولة جراء تراجع أسعار النفط العالمية بتأثير تداعيات الأزمة المالية الآسيوية. وتجلي العجز المالي للدولة في عام1998 أكثر ماتجلي في انخفاض سعر صرف الروبل( عملة البلاد الوطنية) أمام العملات الاجنبية ثلاث مرات وفي شلل النظام المصرفي, وإفلاس العديد من البنوك والشركات, وبالتراجع الحاد في دخل ومستوي حياة المواطنين الروس وفقدان ثقتهم في النظام المالي الوطني. وثمة من يقول إن روسيا الدولة والمواطنين الروس لم يتعافوا حتي الآن تماما من تداعيات هذه الأزمة الاقتصادية الرهيبة رغم مرور وقت طويل نسبيا عليها. ومن ثم فإنه رغم المساعي الحثيثة التي يبذلها النظام الروسي الحالي بزعامة بوتين للحفاظ علي تماسك الدولة إلا أن مايوصف بالنزعة السلطوية للدولة, وعدم تحديث المنظومة الاقتصادية التكنولوجية العامة للبلاد, وتصاعد حدة المتاعب الاقتصادية بالنسبة للمواطن العادي خاصة في ظل تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية بالنسبة للاقتصاد المحلي الروسي, يمكن أن يؤدي هذا كله إلي تفجر جديد في الصراعات السياسية والحركات الانفصالية في الدولة. فثمة أقاليم في منطقة شمال القوقاز مثل: الشيشان, انجوشيا, واوسيتيا, وداغستان, وتاتارستان, وباشخورستان, ومنطقة سيبريا الغنية بالمواد الطبيعية الاستراتيجية وفي مقدمتها النفط تسعي إلي إعلان استقلالها أو علي الأقل إلي تحقيق حكم ذاتي موسع. مكونات الاتحاد الروسي وهناك تساؤل مهم يتعين الإجابة عليه في معرض تسليط الضوء علي قضية مستقبل هذه الدولة, ألا وهو ما هي مكونات الاتحاد الروسي, وماهي الحدود المنظورة وغير المنظورة التي تحدد مكونات هذا الكيان؟ يتألف الاتحاد الروسي في المقام الاول, أو بشكل أساسي من أقاليم تهيمن عليها الثقافة الأوروبية الشرقية المسيحية الأرثوذكسية. وتستحوذ هذه الأقاليم علي السواد الأعظم من البر الروسي, وعلي النسبة العظمي من السكان. وهؤلاء الذين يسكنون هذه الأقاليم هم الروس العرقيون إذا جاز التعبير الذي يشكلون اثنين وثمانين في المائة من سكان البلاد, فيما يشكل التتار حوالي3.8 في المائة, و الأوكرانيين العرقيين2 في المائة و الباشكير1.2 في المائة, و التشوفاش1.1 في المائة, فيما ينتمي باقي السكان إلي أعراق أخري متباينة. أما ثاني أكبر تكتل ثقافي عرقي ديني فذلك الذي يشكله المسلمون في إقليمين روسيين كبيرين هما: شمال القوقاز ومنطقة الفلوجا( يشكل الروس الأرثوذكس ماقد يصل إلي عشرين في المائة من السكان, وذلك مقارنة مع ماقد يصل إلي51 في المائة للمسلمين). ويتراوح عدد المسلمين في معاقلهم الرئيسية في روسيا مابين عشرين واثنين وعشرين مليون نسمة هذا بالاضافة إلي بقية نظرائهم الموزعين علي بقية الرقعة الجغرافية الروسية البالغة مساحتها اكثر من17 مليون كيلومتر مربع أي مايعادل ضعف مساحة مصر17 مرة وهو الأمر الذي يجعلها اكبر دولة في العالم من حيث المساحة. ويلي هؤلاء وهؤلاء اناس ينتمون إلي حضارات ذات جذور أسيوية شرقية متباينة, ولم تنل منها الثقافة المسيحية ولم تندمج سياسيا في الدولة السوفيتية السابقة إلا بشكل سطحي, وهؤلاء مشتتون في منطقتي سيبيريا والشرق الأقصي الروسي. ويبدو أن الاتحاد السوفيتي السابق عجز عن صهر هذه المكونات الثقافية في بوتقة سياسية سوفيتية واحدة بدليل أنه بمجرد سقوط الامبراطورية السوفيتية بدأت مناطق عديدة في الاتحاد الروسي الذي ورث الكيان السوفيتي المنهار تشعر بخصوصياتها القومية يعززها في هذا تباين الخلفيات العرقية واللغوية والدينية والتاريخية والحضارية اضافة إلي تباين الموارد الاقتصادية الاسترتيجية فيما بينها. مؤشرات خطيرة تحدد ملامح التراجع كما تظهر علي السطح مؤشرات تنموية خطيرة تؤكد تراجع أداء العديد من القطاعات الاستراتيجية الروسية. فعلي سبيل المثال فإن ثمة تدهورا ملحوظا في المنظومة التعليمية الروسية وفي أعداد العمال المهرة الروس. فمن بين واحد وثلاثين مليون طفل في البلاد, هناك خمسة ملايين طفل مشرد, ومليون مدمن مخدرات, ومليونا امي, وثلاثة ملايين ونصف المليون طفل معوق, وحوالي ثلاثة ارباع مليون طفل يتيم. كما أن هناك سبعة ملايين اسرة بدون اطفال. وتشهد البلاد كل يوم اجراء عشرة آلاف حالة إجهاض. كما وصل عدد الروس الذين يقتلون يوميا في حوادث المرور حوالي ثلاثين ألف شخص سنويا. ويموت أكثر من مائة ألف روسي كل عام جراء الإفراط في تعاطي المخدرات. أما عدد جرائم القتل التي يجري ارتكابها كل سنة فوصل إلي أكثر من ثمانين ألف حالة. ويبلغ عدد حالات الوفيات في الدولة اكثر من مليوني حالة سنويا وهو مايجعل البلاد تواجه تدهورا ديموغرافيا حادا مع تراجع عدد السكان سنويا بمقدار تسعمائة ألف نسمة. وقد وصل الأمر إلي حدوث أزمة في المدافن في موسكو وفي مدن عديدة أخري جراء هذا المعدل القياسي في عدد الوفيات. ووصل عدد المشردين إلي أربعة ملايين مشرد, وعدد المتسولين إلي ثلاثة ملايين شخص وعدد الذين يعانون من اختلالات عقلية إلي ستة ملايين شخص, وعدد العاهرات إلي أكثر ثلاثة ملايين عاهرة. هذه الأحوال الاقتصادية الاجتماعية تسببت ضمن عوامل أخري إلي مايمكن تسميته بحالة استقطاب طبقي أي إلي تقسيم المجتمع إلي طبقتين أساسيتين فقراء يزدادون فقرا وأغنياء يزدادون غني. أما معدلات البطالة فقد وصلت إلي مستويات قياسية إذ تدور حاليا حول مستوي عشرة في المائة. وتشير تقديرات إلي أن اكثر من ستمائة ألف شخص يخسرون وظائفهم كل ستة أشهر. أما حجم الفساد الاقتصادي فيبدو أنه في تعاظم متواصل مع تصاعد حجم الرشاوي التي يحصل عليها الموظفون في الدولة إلي33,5 مليار دولار سنويا وذلك رغم نجاح نظام بوتين في استعادة العديد من الأصول الاقتصادية الاستراتيجية التي نهبتها الشركات الغربية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق في إطار ماوصف بأكبر عملية نهب اقتصادية في التاريخ الحديث بدعوي الخصخصة وبيع القطاع العام أيام يلتسين.