شهد القرن العشرون تقليصا ملحوظا بين الدول المتطورة والدول المتخلفة, وخاصة في المجال الاقتصادي والمقصود هنا تحديدا الدول التي أصبحت ركاما بعد الحرب العالمية الثانية, مثل اليابان علي سبيل المثال فهذا البلد الذي هزم في الحرب ورزح تحت الاحتلال, تحول في غضون ثلاثة عقود فقط من دولة منغلقة إلي دولة رائدة في العالم بفضل فكرة التحديث السياسي والاجتماعي ما ينسحب بدرجات متفاوتة علي دول مثل الصين وكوريا الجنوبية والهند والبرازيل التي تندفع إلي الامام بقوة مدهشة. علي الرغم من اختلاف الأنظمة السياسية في هذه الدول, إلا أن الحافز المهم للتحديث فيها هو التضامن الوطني الذي تظهر أعلي تجلياته, علي وجه الخصوص, حيث إرادة الشعب وإرادة السلطة تعملان في اتجاه واحد واختلاف الأنظمة السياسية بين هذه الدول دليل جديد علي أن عمليات التحديث السياسي والاجتماعي والعلمي قد تجري في دول امبراطورية وبرلمانية ورئاسية واشتراكية ورأسمالية وغيرها, ولكنها لا يمكن أن تحدث في دول ذات أنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية عشوائية. إذا كانت تجربة اليابان مثالا رائدا في هذا المجال, فروسيا تعاني من مشاكل جمة علي طريق التحديث علي الرغم من التقدم العلمي والازدهار الاقتصادي( نسبيا) بسبب ما جنته خزينة الكرملين من أموال في فترة ارتفاع أسعار النفط, وكذلك من تصدير المواد الخام مثل النفط والغاز والأخشاب, إضافة إلي السلاح الذي وصلت قيمة صادراته سنويا إلي10 مليارات دولار لكن ظاهرة التضامن الوطني في اليابان غير موجودة في روسيا, بل ان المختصين في علم الاجتماع يتحدثون بمزيد من القلق عن تشتت الأمة الروسية فالسلطة تلوح براية التحديث بينما الشعب يري قمة البيروقراطية مشغولة بترسيخ الوضع الذي يتيح لها الإثراء في هذا الصدد تحديدا, يقول مدير المركز الروسي لدراسات الرأي العام فاليري فيودوروف إن المرء يسمع من القصور شخير المتخمين, ومن الأكواخ همهمة الجياع أي أن التفاوت الهائل بين مستويات معيشة بعض فئات المجتمع يؤدي إلي فقدان الوحدة السياسية خاصة إذا كانت هذه الفئات تمثل الأغلبية المطلقة في المجتمع والدولة عموما ولذا ليس ثمة ما يدعو للاستغراب أن تخلو روسيا من طموح جماعي نحو التحديث. الخطير هنا هو أن بعض الخبراء, من مهندسي السياسة ومروضي الرأي العام, يحاولون االتخفيف من هذا الواقع بالحديث عن مزايا ملموسة لامتلاك مصادر الطاقة, ويشغلون الناس بالتنبؤ بأجال نضوب الخامات وإمعانا في أداء الدور, يقول بعضهم إن الخامات كافية لمائة عام, بينما يري البعض الآخر أنها تنفد قبل مائتي عام غير أن الوضع في قطاع التكنولوجيا وتوفير الطاقة علي صعيد العالم يتغير بسرعة فائقة قد تؤدي في غضون بضعة عقود إلي تبخر تلك المزايا التي يتحدث عنها خبراء ترويض الرأي العام والقطعان الاجتماعية. الفساد في روسيا شل قدرة الاقتصاد الروسي علي المنافسة في السوقين الداخلية والخارجية علي حد سواء هذه عبارة لأحد رجال الأعمال الروس اسمه ميخائيل دفوركوفيتش والعبارة تتردد بأشكال مختلفة يوميا وفي كل ساعة وفي العديد من وسائل الإعلام والمحافل الدولية والإقليمية, وعلي لساني رئيس الدولة ميدفيديف ورئيس الحكومة بوتين أيضا وإمعانا في الفساد يجري تشكيل لجان وسن قوانين والإعلان عن حملات اجتماعية وأمنية لمكافحة الفساد ولكن لا نتيجة, بل علي العكس تتحول كل أشكال المقاومة والمكافحة إلي أشكال أخري من الفساد ونهب أموال الدولة. بعض الخبثاء طرحوا فكرة الاستفادة من العلانية التي يوفرها الانتشار الواسع للإنترنت إذ أصبحت الشبكة العنكبوتية وسيلة سياسية فعالة تمكن من فضح الممارسات الخاطئة لموظفي الدولة أيا كانت مراتبهم هؤلاء الخبثاء لم يأتوا من القمر أو من دول مجاورة فهم رجال أعمال روس وشباب من العاملين في مجالات مختلفة, من بينها البزنس والعلوم والتقنيات ووسائل الإعلام وهم أيضا روس وليسوا من هندوراس أو من جزر القمر الفكرة في حد ذاتها تعتمد علي الكشف والفضح, مما يجعلها سندا قويا لأجهزة مكافحة الفساد والسلطات التنفذية والقيادة العليا في تعقب الفساد والفاسدين والمفسدين أيا كانت أوضاعهم السياسية والاجتماعية هذا في حال الرغبة في إرساء قواعد حقيقية وواقعية لمكافحة الفساد والتوجه نحو تحديث البلاد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. علي هذه الخلفية المرعبة, ومع العلم بأننا نتحدث عن النموذج الروسي, نقلت مجلة( بروفيل) الروسية عن رئيس الاتحاد السوفيتي السابق ميخائيل جورباتشوف أن قيادة البلاد غير قادرة علي مواجهة المشكلات التي تعترض روسيا, وعلي هذه القيادة ممثلة بدميتري ميدفيديف وفلاديمير بوتين أن تنصت للشعب لتجنب القلاقل الجماعية والتي يمكن أن يؤدي اندلاعها إلي تفكك روسيا وانهيارها كما انهار الاتحاد السوفيتي جورباتشوف ورغم كل اخطائه السياسية الاستراتيجية وتصوراته الساذجة, وصف روسيا ب مستنقع الركود والخمول والفساد وحذر من استمرار السلطات في اتباع سياسة اللامبالاة وتجاهل الناس ومصالحهم, مما سيؤدي حتما إلي تراكم التوتر الاجتماعي الذي قد ينقلب فجأة إلي مظاهرات عارمة وغضب وفوضي وانتقام. انتقادات أخري ظهرت في الفترة الأخيرة تشير إلي أن روسيا ستعاني أزمة نظام في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين, لأن هذا النظام مبني علي الفساد الشامل والإدارة اليدوية والتراتبية البدائية للسلطة, ولا يقبل التنافس السياسي الحقيقي, ولا يدرك القيمة الحقيقية لوجود مؤسسات حكومية واجتماعية قادرة علي العمل, بما فيها القضاء المستقل والبرلمان وأجهزة الإعلام.