للمرة الأولي منذ اعتاد السفر للعمل بالخارج يشعر بالغربة حين وطئت قدماه أرض المطار.. يشعر أن الوجوه المحيطة به ليست هي الوجوه ذاتها التي كان يلقاها كل عودة.. الوجوه تحولت إلي وجوه زجاجية وخشبية لا نبض بها.. حتي الهواء يحس إنه متغير ليس كما اعتاد.. كان الهواء يشعره دائما بأنه يرحب بعودته.. حتي أحضان الأهل والأقارب ليس بها ذات الإحساس بالاشتياق الذي كان يحسه دوما.. صار الأمر بالنسبة لهم اعتيادا وأداء وظيفيا وفرض عليهم لا أكثر.. حتي شارعه الذي يسكنه أحس أنه يدخل إليه للمرة الأولي.. لم يجد اندفعات الجيران وأهل المنطقة الذين وجد بينهم سنوات عمره.. تساؤلات عدة دارت برأسه.. ولما لم يجد لها إجابة خزنها بالذاكرة لعل يوما يأتي يجد لها إجابةفيه. أيام ستة نضمت منذ عاد.. لم يبرح شقته.. زيارات متواصلة من الأخوة والأهل علي مدار النهار وبعض الليل ثم اعتقال من الزوجة بالفراش تعويضا لها عن أيام الغربة الطويلة.. لكنه اليوم ومنذ استيقظ يشعر بأنه في حاجة للخروج.. أسرع بارتداء ملابسه بسرعة لايدري سببا لها.. هناك رغبة قوية تدفعه إلي أن يتجول بالحي لعله يجد بعض الإجابات عن التساؤلات الكامنة داخله منذ عاد.. لم ينتظر أن يخبر زوجته إنه خارج.. مازالت نائمة منتشية منفرجة الاسارير منذ لقاء الظهيرة.. أخذ يقفز درجات السلم.. كان خارج المنزل يمضي ثوان قليلة.. لفح هواء المغرب وجهه.. أحس ببرودته خاصة ونحن علي عتبات الشتاء.. الأبنية كثيرة.. ولا تناسق بينها.. ألوان مختلفة تعلو الواجهات واشكال أيضا مختلفة للبنايات.. الشوارع أيضا تغيرت ملامحها.. حتي الوجوه التي كانت تعبره أحس أنها ليست معروفة لديه أو لم يلتق بها من قبل.. أصابته نوبة مفاجئة من الابتسام حين تراءي له ما كان يفعله بسنوات صباه.. أخذ يصدر صفير متقطعا متناغما بشفتيه ويدق بكعبيه علي الأرض دقات متناسقة مع صفيره.. لم يدر بنفسه إلا أمام مقهاه المفضل منذ أن عرف إرتياد المقاهي دخل.. حال بعينه يبحث عن مائدته المفضلة بأقصي المقهي والمطلة والكاشفة للميدان تماما.. هوايته الأثيرة منذ صغره التفرس بالوجوة العابرة محاولا ان يقرأ من خلال قسماتها حكاياتها.. جلس.. أتاه الصبي.. لم يره من قبل.. طلب قهوته.. حين أتاه بها أخذ يرتشفها بهدوء.. طعمها أيضا به بعض التغيير.. شرد متذكرا بعض أمور مرت به.. أول مرة دخل هذا المقهي.. دخل مرتعشا يتلفت يمينا ويسارا كأنه هارب من مطاردة ما.. طال به الشرود يومها ولم يفق الا علي يد والده رحمة الله وهو يشده من اعلي البلوفر الذي كان يرتديه ويسحبه خلفه مرتفعا صوته... والله وكبرنا وعرفنا طريق القهاوي. إبتسم وهو يحتسي مزيدا من القهوة..أخذ يتفرس بوجوه الرواد الموجودين من حوله أغلبها لم يره من قبل..صاحب المقهي المعلم( عنتر) مازال علي هيئته التي تركه عليها آخر مرة.. تغيرت بعض ملامح المقهي مسايرةلمتغيرات العصر.. مرايا ولوحات ومفارش وطاولات جديدة.. انتبه من تأمله علي ضجة عالية صاخبة.. لحظات وامتلأ المقهي بحشد كبير من الرجال والشباب والصغار..حتي النساء موجودات بوفرة.. هتافات متكررة مؤيدة لأحد المرشحين( لم ينتبه من قبل أن هذا الوقت موسم الانتخابات).. الهتافات متكررة.. هناك من يردد.. تنتخبوا مين الجمع يرد معلا بيه.. هو الأحق.. هو الأنسب.. معلا بيه حينما تردد الاسم أكثر من مرة رفع رأسه يبحث عن صاحبه.. الاسم مؤكيد ليس غريبا عنه.. رفع رأسه لأعلي.. هناك رجل يعتلي كتف أحد العمالقة المتخصصين بهذا الموسم.. يحيي المحيطين به.. أصابه الذهول.. أخذ يفرك عينيه ليتأكد ويتحقق أنه هو.. هو ذاته( معلا الاباصيري).. إضطر لأن يقف ويقترب من موقعه ليزيد من يقينه أنه هو.. زاد ذهوله.. أنه هو بالفعل.. إنهار جالسا من جديد علي كرسيه.. أخذ يضرب كفا بكف غير مصدق هامسا لحاله.. غير معقول.. معلاالأباصيري.. يرشح لعضوية البرلمان: حقا أنه زمن عجيب وغريب.. كان حقا وصحيحا له أن يشعر بغربة. أصابته نوبة من الضحك الهستيري وبصوت عال للغاية مما لفت الأنظار له بشدة.. استمر غير مبال بمن حوله بنوبات ضحكه الهستيرية.. افاق علي من يربت علي كتفه.. رفع عينيه.. وجد صديقه المقرب منذ طفولته( محمود سالم).. نهض.. إندفع كل منهم لأحضان الاخر.. كتم ضحكاته.. جلسا متقابلين.. همس.. غير معقول.. معلا الأباصيري يبحث عن البرلمان؟ أجابه صديقه.. وما العجيب.. كل شئ بحياتنا أصابه الخلل.. لانك بعيد لم تعرف أننا نسير باتجاهات لانعرفها ولكن معلا بالذات ألاتتذكره.. اشتغل بكل ماله علاقة بالكذب والافتراء وشهادات الزور والعلاقات المشبوهة وتدبير المكائد والكثير والكثير.. قاطعه صديقه.. أعرف وهؤلاء يعرفون ولكن قلت لك أن الزمن يسير بنا في اتجاهات لانعرفها. محمود ياصديقي أيا كان.. سوف أحكي واقعة لا تعرفها من قبل عنه.. بيوم من الايام.. ربما منذ أكثر من خمسة عشر عاما وعند العاشرة مساء وجدت باب الشقة يتعرض لطرقات عنيفة ومتعددة ومتتالية وصيحات تنادي باسمي.. فتحت الباب امتلأت الصالة بأكثر من عشرة أقرباء لمعلا..تطوع أحدهم بالحديث.. أستاذ ممدوح..احنا واقعين في عرضك وشهامتك.. احنا عارفين معزتك وقدرك عند جناب المأمور وانه مابيرفضش لك اي طلب. افهم الموضوع الاول معلا اتمسك بحاله تلبس مع واحدة ست واهلها مسكوه عاريا تماما وجاءوا به إلي المركز.. نرجوك.. حاولت التملص منهم لأن الأمر مخجل..زادوا بالحاحهم لم أجد أمامي مفرا الا الذهاب معهم لاري حقيقة الأمر دخلت إلي المامور وحدي.. حادثته لأعرف ما هي. القصة.. أخبرني أنها بالفعل مثلما عرفت.. ضحك بصوت عال وأشار الي جوال ملقي بركن من أركان الحجرة وقال.. هل تعرف ما بهذا الجوال.أصابتني الدهشة التي ظهرت علاماتها علي وجهي.. أضاف.. ممكن تروح تفتحه بنفسك أخذني الفضول.. إندفعت نحو الجوال.. فتحته.. اندفع من داخله( معلا الأباصيري)عاريا تماما كما ولدته أمه.. جلست لا أدري ماذا أقول وماذا أفعل.. أفقت علي صوت المأمور.. رأيك نتصرف ازاي؟. لا اعرف بجد. فكر معايا. في الحقيقة معالي المأمور أنا شايف الحل حاجة واحدة والقرار قرارك.. علقة موت تعلم علي جتته ونلم الموضوع عشان الست علي الأقل. نحاول مع أهل البنت ممكن يوافقوا خصوصا وأنها متزوجة زي ماعرفت. وقد كان.. علقة الموت لم يبرح داره بعدها لأكثر من شهر وانتهي الامر.. ولم أتابعه منذ حينها لأنه اختفي تماما من الحي ولم أهتم بالسؤال عنه.. عرفت ليه بقي أنا مستغرب. لك حق.. ولكن أنا قلت لك واقرأ بين السطور.. زمنا ياخدنا لاتجاهات لا ملامح لها.. وماذا لو علمت أنه أصبح يؤم الناس في الصلاة ويفتيهم بأمور دينهم.. لاتقف يا صديقي أمام ما يمر أمامك من أمور!! طوال الجلسة ظلت علامات الدهشة والغربه تعلو وجهي حتي عدت الي بيتي.. وجدت الزوجة بإنتظاري وبعينيها ألف سؤال وسؤال.. طلبت العشاء.. جلست أمام التلفاز أشاهد برامجه المتشابهة بكل قنواته.. نفس البرنامج.. نفس الطرح.. تختلف لغه لحوار لا أكثر! نهضت واحتويت كتف زوجتي وأخذتها الي فراشي.. للمرة الاولي منذ وعودتي أحس بأنني بحاجة للارتواء.. شعرت وكأنني ببدايات زواجي.. ربما لأنني كنت لحظتها أبحث عن علاج لدهشتي ولغربتي ولتساؤلاتي.. نمت بعدها والالاف من البسمات تعلو جبهتي.. منذ الصباح تعمدت الخروج لتفحص إعلانات معلا الانتخابية.. لفت نظري أن رمزه الأنتخابي( الكماشة).. ضحكت من داخلي وهمست.. حقا أنه كماشه انتهازية.. ولكن ألم يكن من المناسب أن يكون رمزه( جوال).. ومن ثم في حال نجاحه من الممكن أن أقول.. معلا الأباصيري.. جوال بالبرلمان.. ياأمه ضحكت من أجهلها الأمم!! أحمد طايل طنطا