غدًا.. المواعيد الجديدة ل غلق وفتح المولات التجارية ب القليوبية    باحث: أوروبا تستقطب قادة التنظيمات الإرهابية لهذا السبب    يورو 2024 – تيديسكو: علينا أن نآمن بقدرتنا في الفوز على فرنسا    ثروت سويلم: ليس حقيقي أن الموسم الحالي هو الأخير لعامر حسين    تطورات أحوال الطقس.. شديد الحرارة على القاهرة الكبرى    انتظام حركة القطارات بعد حادث الفردان في الإسماعيلية    بحضور 6 أساقفة عموم.. سيامة 3 رهبان جدد للخدمة الروحية بدير الشهيد مارمينا العجائبي بالإسكندرية    «المؤتمر»: اعتماد الحكومة الجديدة على مخرجات الحوار الوطني كجزء من برنامجها يعزز ثقة المواطنين فيها    تيديسكو مدرب بلجيكا: سنقدم ما بوسعنا أمام فرنسا    قتلى وجرحى بالعشرات.. انفجار خط للغاز الطبيعي في مطعم بإزمير غرب تركيا    احتفالات متنوعة لقصور الثقافة بالإسكندرية في ذكرى ثورة 30 يونيو    أشرف زكي يكشف حقيقة وجود الفنانة عواطف حلمي في دار للمسنين    جيش الاحتلال: إصابة 18 جنديا إثر سقوط طائرة مسيرة في الجولان    ذكرى رأس السنة الهجرية 1446ه.. تعرف على ترتيب الأشهر    بدء مشروع ميكنة الكلى بمستشفى حميات الزقازيق    وزيرة الثقافة: ثورة 30 يونيو عيد لاستعادة الهوية الوطنية    الإعلان عن فرص عمل شاغرة ضمن النشرة القومية للتوظيف بالقليوبية    تكريم خالد صالح وفتحية العسال وجلال الشرقاوى وأحمد شيحة باحتفالية ثورة 30 يونيو    حقوق المرأة في الزواج وتعدد الزوجات: بين الشرع والفقه    تحذير ل4 أبراج فلكية في شهر يوليو 2024 (تفاصيل)    3 عوامل رئيسية تسبب مشاكل صحة القلب لدى الشباب    أمين الفتوى: لا يجوز الصلاة بالحذاء في هذه الحالة    أمين الفتوى: التحايل على التأمين الصحي حرام وأكل مال بالباطل    بيريرا ل في الجول: هذا ردي على طلب المقاولون إعادة مباراة بيراميدز    نائب بالشيوخ: الشعب توحدت كلمته وإرادته في ثورة 30 يونيو    هل تعاني من عاصفة الغدة الدرقية؟.. أسباب واعراض المرض    موعد بداية العام الهجري 1446    رئيس الوزراء يشهد توقيع مذكرة تفاهم ثلاثية لتوسيع عمليات شركة "نوكيا" بمصر    محمد الباز يقدم «الحياة اليوم»    نجم الدنمارك يهاجم حكم مباراتهم مع ألمانيا    إرادة الشعب    استخراج 8 آلاف بطاقة رقم قومي بقوافل الأحوال المدنية في 11 محافظة    رئيس اتحاد البادل يشيد بالنسخة الأولى من بطولة الدوري    تعليم دمياط تعلن جداول المراجعات النهائية فى اللغة الإنجليزية لطلاب الثانوية    انطلاق جولة مفاوضات لتبادل الأسرى بين الحكومة اليمنية والحوثيين في مسقط    رئيس جامعة مصر للمعلوماتية: مصر تستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لتوثيق الآثار    ياسمين عبد العزيز تعود للجيم مرة أخرى بعد فترة توقف    مفيدة شيحة عن انتقادات حفل زفاف ابنتها: لو تكرر نفس الموضوع هنرقص ونغني ونعمل اللي إحنا عاوزينه    شوبير يوجه رسالة قوية لجماهير الزمالك بعد غيابها عن مباراة سيراميكا    أحمد شوبير عن استمرار منافسة الزمالك على لقب الدوري: «أديني أمارة يا جوميز»    صور| الأمن يكشف كواليس فيديو استعراض شخص بسيارته على الطرق السريعة    رئيس جامعة المنوفية: بدء اتخاذ الإجراءات اللازمة لإنشاء معهد الأورام    نتيجة دبلوم تجارة.. رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2024 دور أول بوابة التعليم الفني    ياسر حفني أفضل مدرب في بطولة العالم للخماسي الحديث للناشئين    ضبط 388 قضية مخدرات و211 قطعة سلاح خلال 24 ساعة    مسؤول أممي: الدمار الشديد في قطاع غزة يعرقل عمل الجهات الإغاثية الدولية    أكثر من 15 سيارة جديدة تدخل السوق المصري لأول مرة في 2024    الحوار الوطنى يهنئ الشعب المصرى بذكرى ثورة 30 يونيو    صناعة الحبوب: ثورة 30 يونيو حافظت على أمن الوطن والتوسع في المشروعات القومية    هل الصلاة في المساجد التي بها أضرحة حلال أو حرام؟..الإفتاء توضح    عبدالغفار يبحث مع «الصحة العالمية» إجراءات حصول مصر على الإشهاد الدولي بالخلو من مرض الملاريا    أبو الغيط يكشف صفحات مخفية في حياة الرئيس الراحل مبارك وتوريث الحكم وانقلاب واشنطن عليه    النشرة المرورية.. سيولة بحركة السيارات بمحاور القاهرة والجيزة فى إجازة 30 يونيو    أبو الغيط يلتقي وزير خارجية الصومال    بكين: ارتفاع أرباح خدمات البرمجيات والتكنولوجيا 16.3% خلال أول 5 أشهر في 2024    أسعار الخضراوات اليوم 30 يونيو في سوق العبور    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. اليوم الأحد 30 يونيو    إسرائيل تهدد بالعمل على إطلاق سراح أي شخص ستعتقله الجنائية الدولية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أغلب الظن أنهما التقيا في غرفة الانتظار‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 16 - 04 - 2010

,‏ بإحدي العيادات‏.‏ يجيء النحيل أولا‏,‏ ويتخذ مجلسه‏,‏ منتقيا مادة للقراءة‏,‏ من بين ما يتناثر أمامه في أناقة‏.‏ وبعد قليل‏,‏ يدخل البدين‏,‏ وما أن تقع عيناه علي الآخر حتي يهتف‏:‏ '‏ غير معقول‏.‏ مستحيل‏.‏ أنت‏!‏؟ بعد كل هذه السنين‏!'‏
مصافحة وعناق حميم وقبلات من جانب البدين‏,‏ ونظرة اندهاش وحرج علي وجه النحيل‏,‏ الذي ينحني شيئا ما نحو الآخر‏.‏ ويتمتم‏:‏
‏'‏ أهلا وسهلا يا أفندم‏!'‏
لا يمهله البدين‏,‏ حيث يتراجع كالمهان‏,‏ ويصيح‏:‏
‏'‏ أفندم‏!‏ أنا أفندم؟ هكذا يا صاحبي؟ لا تتذكرني‏.‏ صحيح أنك رجل قليل الأصل فعلا‏,‏ أنا‏....‏ ولكن كلا‏,‏ علي الطلاق بالثلاثة من زوجتي الاثنتين لن أقول لك أي شيء قبل أن تتذكرني بنفسك‏.'‏
فيما عدا البدين والنحيل‏,‏ هناك مجموعة من الشباب‏,‏ يقفزون تباعا‏,‏ من فوق جسر‏,‏ يطل علي هوة سحيقة‏,‏ وهم مربوطون بحبال مطاطية‏,‏ فيما يبدو‏,‏ وفي سقوطهم يصرخون‏,‏ فتجذب أصواتهم البدين‏,‏ ما إن يجلس‏,‏ فيشاهدهم بتركيز مبالغ فيه‏,‏ معرضا عن النحيل‏,‏ وراسما علي وجهه أمارات غضب صبياني وعتاب‏.‏ والآخر لا ينظر نحو شاشة التليفزيون‏,‏ بل نحو صاحبه القديم‏,‏ المجهول حتي الآن‏,‏ ينظر نحوه في رجاء أخرس‏,‏ عاقدا حاجبيه‏,‏ مقلبا جميع دفاتره القديمة بسرعة جنونية‏,‏ دفاتر الخمسين عاما‏.‏ يخيب مسعاه‏,‏ فيبدأ مراجعة منهجية لذكرياته ومعارف ماضيه‏,‏ انطلاقا من الطفولة المبكرة‏,‏ ويري في ذلك شبها بما يقوم به مع الطبيب المنتظر‏,‏ فيرحب بالعملية كتمرين‏.‏ الثقة التي تحدث بها البدين منذ قليل توحي بعلاقة وثيقة‏,‏ وغير قديمة العهد بالمرة‏,‏ قرابة‏,‏ نسب‏,‏ زمالة‏,‏ صداقة قطعتها الظروف‏,‏ لكن متي وأين؟ هل قابله هنا من قبل؟ غير ممكن‏.‏
تقترب موظفة الاستقبال‏,‏ الجميلة بطبيعة الحال‏,‏ لتسجل بيانات كل منهما‏.‏ اقترب الفرج‏,‏ يفكر النحيل‏.‏ ممكن أسجلها بنفسي‏,‏ يطلب البدين‏.‏ طبعا‏,‏ توافق الموظفة جاهلة بكل شيء‏.‏ تصر علي أن يشربا شيئا‏,‏ حتي يحضر الطبيب‏.‏ يطلب البدين أي عصير طازج‏,‏ عدا البرتقال والليمون والجوافة‏,‏ ويطلب النحيل قهوة سادة‏,‏ ويبدو كمن يعول علي فنجان القهوة ذاك لمعاونته علي التذكر‏.‏ علي الشاشة‏,‏ تتحدث واحدة من جماعة القافزين‏.‏ تحكي كيف تعرفت بزوجها في معسكر للقفز مثل هذا‏,‏ وأنهما تعهدا بمواصلة القفز من المرتفعات طوال حياتهما معا‏,‏ إلي أن تفرقهما الأيام‏,‏ أو تمنعهما عن القفز ظروف صحية‏,‏ وهنا يضحك البدين أولي ضحكاته التي تصيب وقار المكان في مقتل‏.‏
‏'‏ يا سلام‏,‏ يا سلام‏,‏ ناس تعيش حياتها بصحيح‏!'‏
ثم‏:‏
‏'‏ أموت أنا في النط في الهوا‏!'‏
ثم ضحكة مختصرة‏,‏ مثل توقيع‏,'‏ فورمة‏'‏ مخطوفة ذات رنين‏.‏ من جانبه‏,‏ يحاول النحيل أن يتسمع أصداء هذه الضحكة بين زوايا أيامه البعيدة والقريبة‏.‏ يحاول‏,‏ بلا جدوي‏.‏
الفتي‏,‏ أبيض ممتلئ الجسم ومائل للقصر‏,‏ يضع المشروبات أمامهما‏,‏ في حرص ودربة‏.‏ يخرج البدين علبة سجائره‏,‏ معدنية ذات بريق ذهبي‏.‏ يقدم واحدة للفتي‏,‏ يتناولها بعد تردد لا يطول‏.‏ يشعل البدين سيجارته‏.‏ يلتفت الفتي نصف التفاتة‏,‏ قبل أن يذهب‏,‏ يهمس‏:‏
‏'‏ علي فكرة‏,‏ التدخين ممنوع‏!'‏
و يبتسم‏,‏ مما يمنح البدين فرصة جديدة ليربك وقار المكان ويوهن من أعصاب النحيل أكثر‏,‏ بضحكة أخري ذات رنين‏:‏
‏'‏ يخرب عقلك يا ولد‏!‏ ما أنا عارف‏!'‏
ينسحب الفتي‏,‏ محتفظا بابتسامته‏.‏ ويقول البدين‏,‏ في نبرة حازمة لصاحبه القديم‏:‏
‏'‏ طبعا أنت لا تدخن‏..'‏
‏'‏ صحيح ولكن كيف‏...'‏
‏'‏ لن أقول كلمة‏,‏ أم تريد أن ينخرب بيتي وأطلق المرأتين؟‏'‏
البدين في دورة المياه‏,‏ النحيل وحده‏,‏ يشعر براحة عظيمة‏,‏ لا يدري لماذا‏,‏ ويتساءل عن سر شعوره بالذنب‏,‏ لمجرد أنه لم يتعرف علي شخص مر بحياته ذات يوم‏.‏ يحنق علي نفسه‏,‏ لكنه يحنق علي البدين أكثر‏.‏ يقرر التوقف عن محاولة التذكر‏,‏ وعن استرضاء هذا البدين كذلك‏.‏ يتناول النحيل إحدي المجلات‏,‏ غير الطبية‏,‏ ويشرع في القراءة‏...‏يستغرق في سطورها وصورها‏,‏ وكأنه سيجد فيها مصيره الخاص‏.‏
تمر بجانبهما الموظفة‏,‏ فيستوقفها النحيل‏:‏
‏'‏ من فضلك‏,‏ هل سيتأخر الدكتور أكثر من هذا؟ نحن هنا منذ نصف ساعة تقريبا‏.'‏
ترفع حاجبا واحدا‏,‏ تتحدث ببطء‏,‏ وبضغط علي مخارج الحروف‏,‏ وكأنها تعلم الكلام لطفل معاق‏:‏
‏'‏ الدكتور لم يتأخر‏.‏ لقد أتيتما مبكرين عن الموعد بساعة تقريبا‏.'‏
يتدخل البدين‏:‏
‏'‏ لكن الوقت تغير‏.‏ بدأ التوقيت الصيفي منذ يومين‏'‏
تجيب علي الفور‏,‏ ومازال الحاجب مرفوعا‏:‏
‏'‏ ولو‏!‏ الموعد كما هو‏...'‏
البدين‏:‏
‏'‏ كنت أمزح يا آنسة‏...‏آنسة أم مدام؟‏'‏
تتجاهله‏:‏
‏'‏ علي العموم الدكتور يحاضر في ندوة بالقرب من هنا‏,‏ وسيأتي بعد قليل‏..‏بعد إذنكما‏.'‏
أنزلت حاجبها ثم مضت‏,‏ وقبل أن تختفي تماما‏,‏ بدأ البدين في محاكاة صوتها وأسلوبها‏:‏
‏'‏ الدكتور يحاضر في ندوة عن مغازلة الممرضات وموظفات الاستقبال بين كل كشفين‏,‏ وسيأتي بعد قليل ليبرهن معي علي صدق نظرياته‏..‏بعد إذنكما لأعد نفسي‏..'‏
و تتفجر ضحكاته بلا رادع‏.‏
النحيل‏:‏
‏''‏ اخفض صوتك‏,‏ أرجوك‏..'‏
البدين‏:‏
‏'‏ أراهن علي أنه يغازلها هنا فوق هذه الأريكة‏!'‏
النحيل متوسلا‏:‏
‏'‏ صوتك‏,‏ أرجوك‏!'‏
البدين‏:‏
‏'‏ أو في غرفة الكشف‏,‏ والمرضي المساكين ينتظرون‏.'‏
يرفع الفتي الأكواب‏.‏ يسأله البدين في تواطؤ‏:‏
‏'‏ ما مشكلتها هذه البنت؟‏'‏
‏'‏ مسكينة يا بيه‏,‏ عقلها خف من العمل هنا‏!'‏
‏'‏ شفي الله الجميع‏,‏ وأنت؟ ما أخبار عقلك ؟‏'‏
‏'‏ الحمد لله‏,‏ أتيت إلي هنا مضبوط جاهز‏.'‏
ضحكات البدين من جديد‏.‏
النحيف معتصم بالقراءة‏,‏ لكن البدين يجره من عزلته وكأنما يطيب خاطره‏.‏
‏'‏ هل تتردد علي هذا الطبيب منذ فترة؟‏'‏
‏'‏ هذه هي الزيارة الثالثة‏.'‏
‏'‏ هذه أول مرة بالنسبة لي‏.‏ سمعت أنه عبقري‏,‏ أو بالأصح مجنون قليلا‏.'‏
‏'‏ لا سمح الله‏!‏ الرجل كله عقل‏.'‏
‏'‏ وهل هي مسبة‏.‏ الحقيقة أنني أميل للأطباء المجانين‏.‏ تشعر معهم وكأنك في بيتك‏,‏ تكون هناك أرضية مشتركة بينكما‏...‏و لكن قل لي‏,‏ بالنسبة لحالتك هل تشعر بتحسن؟‏'‏
‏'‏ لا أدري‏.‏ أحيانا أشعر أن حالتي تتحسن فعلا‏,‏ وأحيانا أخري يهيأ لي أن شيئا لم يتغير‏,‏ وأن المسألة كلها أوهام في أوهام‏.'‏
‏'‏ الله‏!‏ أخيرا قلت شيئا جميلا‏;‏ أوهام في أوهام‏.‏ ذكرتني بالأيام القديمة يا أخي‏...'‏
‏'‏ بالمناسبة أنا ذاكرتي لا بأس بها‏,‏ ولا أدري كيف نسيتك تماما هكذا‏..'‏
‏'‏ إنه سوء حظي‏.‏ رغم أنني شخص لا ينسي‏.''‏ دون شك‏.'‏
‏'‏ لكنك كنت تستطيع علي الأقل أن تلفق لنا ذكريات مشتركة‏.'‏
‏'‏ ألفق‏,‏ كيف؟‏'‏
‏'‏ توهمني بأنك تتذكر‏,‏ وتذكر مثلا موقفا لم يقع بيننا قط‏,‏ وقد أتجاوب معك عندها وأكمل لك الحكاية من عندي‏.‏ لا بأس في بعض الخيال‏.'‏
‏'‏ والله ما أنا فاهم حاجة‏.'‏
‏'‏ هذا أحسن‏!'‏
‏'‏ وأنت؟‏'‏
‏'‏ أنا‏,‏ أنا جربت كل شيء‏,‏ ولم أعد أؤمن بشيء تقريبا‏.‏ هذا باختصار شديد جدا‏.‏ صار الأمر بالنسبة لي عادة لا أكثر ولا أقل‏,‏ غير أنني لا أتوقف عن ملاحقة الأطباء المجانين وغريبي الأطوار‏,‏ صرت مدمنا علي هذا‏,‏ مثل المهووسين بجمع الطوابع أو القوارير أو صور أحد المشاهير‏.'‏
‏'‏ تقصد أنك بدأت تتسلي بمرضك‏!'‏
‏'‏ بالضبط‏,‏ ها قد بدأت تفهمني وتسترد ذكرياتنا القديمة معا‏,‏ كم أتوق لصاحبي الذي كان‏.'‏
‏'‏ بصرف النظر عن أيامنا القديمة‏,‏ ألا تري أن في هذا شيء من الخطورة؟‏'‏
‏'‏ بمعني‏...'‏
‏'‏ أي أن تسليتك بمرضك تصير تسليما به‏,‏ بل واعتيادا له بحيث لا ترغب بجدية في الشفاء منه‏...'‏
‏'‏ إنني أري العكس‏,‏ فهكذا أنزع أنياب المرض‏,‏ وأتلاعب به‏,‏ بدلا من أن يتلاعب هو بي‏.‏ البطل هو من لا يري في معاناته إلا المغامرة واللهو‏.‏ لست بطلا‏,‏ ولكن‏...‏هذا مما تعلمته علي يد دكتور إيسا‏.'‏
‏'‏ دكتور من ؟‏'‏
‏'‏ إنه طبيب نفسي هندي أمريكي‏,‏ كان يتابع حالتي بالمراسلة‏,‏ عن طريق الإيميل‏.'‏
‏'‏ وهل هو أيضا مجنون‏,‏ عبقري يعني؟‏'‏
‏'‏ إنه الأعظم علي الإطلاق‏.‏ دخلت معه إلي عالم اليوجا والتأمل وعرفت الصفاء الروحي‏,‏ ولو للحظات مختلسة من الزمان‏.'‏
‏'‏ ولماذا لم يتم الله شفاءك علي يديه؟‏'‏
‏'‏ لقد مات‏.'‏
يبدأ البدين في البكاء فجأة‏.‏
يصل انتباه النحيل لأقصي درجة‏,‏ يتزحزح حتي حافة مقعده‏,‏ متجهم الوجه‏,‏ تجاوبا مع البؤس الذي اكتسي به وجه صاحبه‏,‏ والدموع التي تترقرق بين عينيه‏,‏ مازال وجهه ورديا وناعما ومكورا‏,‏ لكنه تحول من وجه المهرج إلي وجه العجوز المهدم الضائع‏.‏
‏'‏ انفجرت طائرته قبل خمسة أعوام‏,‏ ليتركني وحيدا‏,‏ في هذه الدنيا‏,‏ بلا سند‏.‏ شعرت باليتم لأول مرة في حياتي‏,‏ وعاودني الاكتئاب‏,‏ وعدت إلي الشراهة في الطعام وكل شيء‏.‏ ثم حاولت الانتحار مرة بعد مرة‏...'‏
تصير دموعه أغزر وأسرع تدفقا‏.‏ ويتحول البكاء بغتة إلي نحيب ونشيج موقعين‏.‏ لا يجد النحيل مفرا من النهوض‏,‏ للجلوس بقربه لتهدئته‏.‏
‏'‏ وحد الله‏!‏ وحد الله‏!'‏
‏'‏ لا إله إلا الله‏!'‏
يرتمي البدين برأسه علي صدر النحيل‏,‏ مستريحا بنصف جسده العلوي تماما عليه‏,‏ ويمعن في البكاء والعواء مثل رضيع جائع‏.‏ وهنا تدخل الموظفة‏,‏ وترفع حاجبيها الاثنين هذه المرة‏.‏ وسط دموعه‏,‏ يراها البدين‏,‏ فيتعالي صوت بكائه بحرقة أشد‏,‏ كما لو أنه رأي المرأة الشريرة التي ضربته منذ قليل‏,‏ ويرغب في أن يؤكد لأمه‏,‏ ببكائه الأخرس‏,‏ أنها هي‏,‏ هي المجرمة‏.‏ لكن أمه‏,‏ النحيل‏,‏ يزيحه مبتعدا قليلا‏,‏ تاركا يده فقط تربت علي كتف البدين بآلية‏,‏ وكأنها تتصرف بمعزل عنه‏,‏ موجها نظره للموظفة‏.‏
‏'‏ وصل الدكتور‏.‏ تفضل حضرتك‏.'‏
فيصرخ البدين‏,‏ ودموعه لم تتوقف بعد‏:‏
‏'‏ لكنني لن أحتمل الانتظار أكثر من هذا‏....‏أرجوك‏,‏ أرجوك‏,‏ لن أحتمل‏..‏أريد الطبيب حالا‏...‏آآآآآآه‏.....‏الله يرحمك يا دكتور إيسا‏...'‏
تؤثر الموظفة أن تترك لهما الاختيار‏,‏ فتمضي بلا مبالاة‏,‏ بعد أن تقول‏:‏
‏'‏ اتفقا معا‏,‏ ولكن بسرعة‏.'‏
هنا يبتعد البدين‏,‏ عن النحيل‏,‏ ويمسح عينيه بسرعة‏,‏ وينظر نحو الآخر ضارعا ولكن حازما مع هذا‏.‏
النحيل ينتظر‏,‏ وحده‏.‏ علي شاشة التليفزيون الآن برنامج عن علاقة الكلاب بأصحابها‏.‏ كل دقيقتين أو ثلاث ينظر نحو ساعة يده‏.‏ ثم يقرأ فقرة من أي موضوع‏.‏ وإذ تلفت كلمة الصبر اهتمامه‏,‏ يقرأ‏(‏ تحكي القصة عن شخص يريد الخروج من القرن العشرين‏,‏ فيعرف أن هناك وكالة سفريات تنقل الناس إلي يوطوبيا تدعي فيرنا‏,‏ في عوالم أخري موازية‏,‏ فيدفع شارلي‏-‏ وهو اسم البطل جميع أمواله لوكالة السفريات‏....)‏ ذلك الرجل البدين حالة غريبة جدا‏,‏ يضحك فجأة ويبكي فجأة‏.‏ مسكين‏.‏ و يتفوه بكلام فاحش‏.‏ كيف لا يذكره علي الإطلاق؟ من المستحيل نسيان شخص كهذا‏.(‏ تقوم وكالة السفريات بوضع شارلي ورفاقه من المسافرين في جرن قمح بمنطقة نائية‏,‏ ويقال لهم إن عليهم الانتظار في صبر‏.)‏ هو أيضا عليه الانتظار في صبر‏.‏ هذا هو الاختبار الحقيقي‏,‏ الاختبار نفسه علي الدوام‏.‏ في انتظار شيء ما‏,‏ علي الدوام‏.‏ تري ما الذي يحدث الآن‏,‏ بالداخل‏,‏ في غرفة الطبيب؟ وبعد انتظار طويل جدا وممل‏,‏ يقتنع شارلي أنه ومن معه قد وقعوا ضحايا لبعض النصابين‏,‏ الذين استولوا علي أموالهم‏,‏ فيخرج من الجرن وهو ممتعض‏.‏ ماذا لو كان البدين يسخر منه‏,‏ ويتلاعب به؟ هل هو أيضا وقع ضحية بهلوان أفاق؟ كيف انطلت عليه كذبة حقيرة وتافهة كتلك؟ عوالم موازية‏!‏ ما معني هذا؟‏(‏ وما إن يبتعد شارلي قليلا عن الجرن‏,‏ حتي يتحول المكان كله إلي تلك اليوطوبيا الموعودة‏,‏ يدرك خطأه ويحاول جاهدا الرجوع‏,‏ بلا فائدة‏,‏ لأن أوان ذلك قد فات‏.‏ وفهم عندها أن الانتظار الطويل والممل كان هو الاختبار‏,‏ من أجل فصل غير المؤمنين‏,‏ الذين شاركوا في صنع حضارة نفاد الصبر‏.)‏
‏'‏ أرجوك‏,‏ في المرة القادمة حاول أن تتذكرني‏.'‏
‏'‏ لا تقلق‏,‏ سأتذكرك علي الفور‏.'‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.