تأججت ثورة يناير من جديد, ولم يدرك فلول النظام أنه لم يعد ممكنا قطع اللسان, فتقرر خنق الأنفاس وفقأ الأعين, وتكسير العظام. وواصل تليفزيون الدولة الرسمي دوره المشهود في تزييف الوعي وإثارة البلبلة, فأفسح مساحة هائلة لأشخاص قيد المحاكمة في موقعة الجمل( الأولي) ليأكدوا لنا أننا واهمون, وأن ما حدث في التحرير وميادين محافظات مصرالرئيسية أبعد مايكون عن الثورة, فالانتفاضة التي حدثت بلا قائد, ولا هدف ولا برنامج, ولا منهح,هي طبقا لنظرياتهم هوجة قام بها مجموعة من الشباب المارق الذي يجب محاكمتهم وتأديبهم وتربيتهم. وحتي لايستولون علي عقولنا كما استولوا علي ثورتنا, دعنا نتفكر: هي ثورة؟ يعرف علماء السياسة الثورة بأشكال مختلفة فهي: * الخروج عن الوضع الراهن وتغييره( إلي وضع أفضل أو أسوأ) مدفوعا بعدم الرضا,أو التطلع الي الأفضل أو مدفوعا حتي بالغضب. *ويقول التعريف المعجمي أو الأكاديمي قيام الشعب بقيادة نخب وطلائع من مثقفيه لتغيير نظام الحكم بالقوة. * أما التعريف المعاصر هو التغيير الذي يحدثه الشعب من خلال أدواته( كالقوات المسلحة) أو شخصيات قيادية لتحقيق طموحاته وتغيير نظام الحكم العاجزعن تلبية هذه الطموحات ولتنفيذ برنامج من المنجزات الثورية غير الاعتمادية. كل هذه التعريفات تتوافق تماما مع المفهوم الدارج أو الشعبي البسيط للثورة ألا وهو الانتفاض ضد الحكم الظالم. ويذكر التاريخ أشكالا متعددة للثورة فهناك الثورة الشعبية( مثل الثورة الفرنسية عام1789 وثورات أوروبا الشرقية أو ثورة أوكرانيا البرتقالية) أو الثورة العسكرية والتي تسمي انقلابا( أمريكا اللاتينية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين) أو الثورة والمقاومة ضد المستعمر( مثل الثورة الجزائرية) كما يحكي لنا التاريخ أن العديد من الثورات تبدأ من عند الشعب ولكن تنتهي في صورة دكتاتوريات عسكرية كما الحال في معظم ثورات أمريكا اللاتينية. وقد تنجم حروب ثورية تودي بحياة الكثير من الأبرياءونتمني ألا يحدث ذلك عندنا وإن شهدنا بوادره. تأتي المشاهد من الذاكرة البعيدة والقريبة بين ثورتين يفصلهما ستون عاما. ذات صباح مختلف في صيف1952 م جاء الجيش وذهب الملك, وتغير نظام الحكم والسياسة وتتابعت التغيرات وأذكر وقتها كيف اجتذب الضباط الثوار الشعب ليلتف حولهم ويناصرهم ويعضدهم, كانوا يحسون بمعاناة الناس ويسعون لتحقيق عدالة اجتماعية, رفعوا شعارا بسيطا الاتحاد والنظام والعمل وعملوا علي تنفيذه وتسارعت مسيرة غيرت وجه مصر,. هل خلت تلك الثورة من التجاوزات والأخطاء؟ أبدا كانت مليئة بها, وكتب نجيب محفوظ علي لسان أحد شخوص رواياته ذهب الملك وجاء عدد غير محدود من الملوك ولكنها كانت ثورة مليئة بالإنجازات أيضا, وقامت مشروعات قومية تنموية محصلتها النهائية في مصلحة الإنسان المصري البسيط, فتحولت من إنقلاب عسكري الي ثورة شعبية. وبعد نحو ستة عقود, في صباح الثلاثاء25 يناير2011 م, خرجت نخبة من الشباب الواعي الثائر تعارفت وتواصلت عبر الإنترنت, في انتفاضة شعبية غير مسبوقة, رافضة ممارسات السلطة وتجاوزاتها, منادية بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية, منددة بالأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. *ثار الشعب علي الفساد الاقتصادي حين نهبت خيرات البلاد وبيعت مصانعها وأراضيها لتتركز ثرواتها في أيدي المغامرين المقربين الي السلطة وبلغ الاستهتار ذروته حين تمت مجاملة أعداء الوطن بعقود مجحفة لتصدير الغاز الطبيعي يمتد العمل بها حتي عام2030, فضلا عما شابها من فساد وعدم شفافية. *ثار الشعب علي العنت السياسي الذي تمثل في تطبيق قانون الطواريء لعدة عقود, حيث قيدت الأنشطة السياسية, وعلقت الحقوق الدستورية, وتزايدت أعداد السجناء السياسيين( بحجة الحفاظ علي الأمن القومي) ووصل العنف الممنهج في أقسام الشرطة مداه, ورصدت حوادث ضرب وسحل حتي الموت. وبلغ الفساد السياسي منتهاه في انتخابات برلمانية انتهكت حقوق القضاء المصري في الإشراف عليها, وأهدرت أحكامه, وزورت نتائج الانتخابات لتمحي بشكل شبه كامل أي تمثيل للمعارضة. * ثار الشعب علي الفساد الاجتماعي حين زادت معدلات الفقر( نحو40% من سكان مصر يعيشون تحت خط الفقر بأقل من دولارين في اليوم), وارتفعت معدلات البطالة, وانتشرت الجرائم, وتراجع مستوي التعليم. الأخطر أن الشباب المتعلم فقد الأمل والفرصة العادلة في بلده فأقدم علي هجرات غير شرعية هي أشبه بالانتحار, بل رصدت حالات من الانتحار حرقا قبل أسبوع من بداية الثورة في أماكن متفرقة في مصر احتجاجا علي الأوضاع المعيشية السيئة استنساخا لظاهرة البوعزيزية التي أطلقت شرارة الثورات العربية. كانت الثورة حتمية رغم الحصون الأمنية المنيعة, وأذكر الرسالة التي وصلتني من صديق عربي عاش بعضا من الوقت في مصر يقول فيها لم أدهش للثورة التي حدثت عندكم, ولكن دهشتي أنها أخذت كل ذلك الوقت لتحدث. المشهد واضح كما الشمس في منتصف النهار, ولكن هناك من يحاول أن يسوق لنا صورة مغلوطة, مقلوبة, فيهون الأسباب التي أدت للثورة, ويطعن في النخبة التي دعت إليها, فهب فرسان التليفزيون ليشوهوا الثورة بالحجة الفاسدة والتعريفات المغلوطة,كما حاربوها قبلا في الميدان بأساليب القرون الوسطي. هم يسعون اليوم جاهدين لتتحول الثورة الشعبية الرائعة إلي إنقلاب عسكري مقيت. هذه ثورة ليست ككل الثورات, بينت للعالم كله كيف تكون الثورة متحضرة, سلمية, حاشدة, صامدة, وفوق كل ذلك مرحة!! لوكنت أستاذا للعلوم السياسية لأعدت كتابة تعريف الثورة من جديد طبقا لما شاهدته بعيني رأسي كالتالي: قيام شعب أعزل صامد يقابل إطلاق الرصاص بإطلاق النكات, والفكاهات الثقيلة والخفيفة ويتبادلها بالفيس بوك, ولامانع من إقامة حفلة زار حتي يرحل شياطين النظام الذين هاجموا الشعب بالرصاص والغازات والجمال والبغال والتليفزيون ولايزالون.