ربما لم يتوقف الكثيرون عند عنوان قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم مصر تتحدث عن نفسها والتي تغنت بها السيدة أم كلثوم, إذ يبدو أن العقل الجمعي للمصريين تعامل مع الأمر علي أن هناك بالفعل صوتا واحدا يمكنه الحديث باسم مصر. وتصدير صورة صادقة عنها تعكس واقعها الحضاري. بيد أن معاودة سماع تلك القصيدة الآن تفرض ضرورة التوقف لطرح السؤال حول من الذي يتحدث باسم مصر اليوم, من يعكس صورة الأوضاع الحالية في مصر, هل هي الحكومة أم المجلس الأعلي للقوات المسلحة, هل هي النخبة المصرية التي كشفت عنها الثورة المصرية وحملتها إلي واجهة المشهد أم الشعب المصري الذي ثار وأسقط نظاما كان يعتقد انه بمنأي عن مجرد الاهتزاز مهما كانت الرياح عاتية. والسؤال الأكثر أهمية هو في الحقيقة من الذي يجب ان يتحدث الآن باسم مصر؟ فإذا كنا جميعا قد سلمنا بان ثورة الخامس والعشرين من يناير هي ثورة الشعب المصري وليست ثورة الشباب فقط فان ذلك يعني أن الصوت العالي الآن يجب أن يكون صوت الشعب أي الرأي العام المصري, فهو الوحيد الذي يجب علي الجميع أن يسمعه ويفهمه ويحاول التعامل مع مطالبه وتوجهاته بشأن كافة القضايا التي تؤثر علي حياته. فهل هذا هو ما يحدث الآن؟ الإجابة بالقطع لا, فالصوت العالي الآن هو للنخبة السياسية التي جاءت علي اكتاف ثورة يناير معتقدة أن دور الشعب قد انتهي باسقاط الرئيس, وأن مهمة بناء مصر وشكل نظامها السياسي وتسيير أمورها اليومية والتخطيط لمستقبلها هي مهمة تلك النخبة باعتبارها الأكثر دراية وحكمة وأن الرأي العام غير ملم بتلك القضايا الكبري ومن ثم انصرفوا عنه وبدأوا في الاشتباك حول البدائل الممكنة لتصريف تلك الأمور وهنا اصطدمت الأجندات والايديولوجيات وأحيانا المصالح الخاصة, بل ان كثيرين من تلك النخبة انقلبوا علي نتيجة استفتاء للرأي العام مشهود بنزاهته وافق فيها الرأي العام بأغلبية كبيرة علي خريطة الطريق التي وضعها المجلس الأعلي للقوات المسلحة للمرحلة الانتقالية وحتي تسليم الأمور لسلطة مدنية منتخبة, وهنا بدأت المعارك الفرعية أو المعارك النخبوية والتشرذم الحزبي كما التشتت الائتلافي الذي عانت منه الثورة, وبدأ الرأي العام في العزوف والملل من كثير من تلك المعارك وبدأ في الانصراف عن الكثير من الفعاليات التي يدعو لها بعض عناصر تلك النخبة. وبدأت الهوة بينهم وبين الرأي العام تتسع. وكم كان مدهشا أنه في استطلاعين للرأي العام أجراهما مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام قبل الثورة بعام تقريبا وبعد الثورة بنصف عام اتضح منهما أن نظرة الرأي العام للنخبة السياسية لم تتغير تقريبا, والتي تتلخص في أن النخبة السياسية هي أشخاص يسعون لمصالحهم الشخصية بالأساس, وهو ما يعني بشكل أو بآخر أن الرأي العام لا يثق في النخبة السياسية الحالية ولا يراها مختلفة عن النخبة السياسية في النظام السابق,. فهم نجوم يفرضهم الإعلام حاليا كما فرض النظام السابق وإعلامه نجوما مثلهم في المرحلة السابقة. النخبة الحالية كما السابقة تتصور أن بيدها حل مشكلة مصر وان بيدها الوصفة السحرية لمستقبل الأوضاع السياسية والاقتصادية في مصر. يطالب الكثير منهم بضرورة أن يكون النظام السياسي في مصر برلمانيا ويلهثون وراء تشكيل الأحزاب ويؤكدون أن الانتخاب بالقائمة هي الحل الأمثل لتجنيب مصر الكثير من المخاطر, ويري الكثير منهم ضرورة تأجيل الانتخابات, ويحاولون عبر الإعلام ان يصوروا ذلك علي أنه رغبة الرأي العام, بينما الرأي العام كما يكشف عنه الاستطلاع الذي أجراه مركز الأهرام بعد الثورة بنصف عام يري عكس ذلك, فالرأي العام يريد مصر دولة رئاسية أو نظاما مختلطا ويري أن التعددية الحزبية ليست مفيدة لمصر وأن الأحزاب ليست ذات فعالية, ويري ضرورة اجراء الانتخابات في موعدها ويفضل أن تتم الانتخابات بالطريقة الفردية. وهكذا يمكن القول أن في مصر الآن فريقان الأول هو النخبة ومعها إلي حد ما الحكومة يصدرون عن مصر صورة تختلف عن الصورة التي يراها الرأي العام ومعه إلي حد بعيد المجلس الأعلي للقوات المسلحة, الذي وضع نفسه بتحمله مسئولية قيادة البلاد في الفترة الانتقالية الحرجة التي تخوضها مصر في اعقاب ثورة يناير الماضي في مرمي نيران طوفان الثورة الهادر. ورغم ما قد يكون لدي البعض من ملاحظات علي اداء المجلس خلال المرحلة الانتقالية, فانه بصفة عامة ومن وجهة نظر الرأي العام قد نجح إلي حد بعيد في إدارة المرحلة, وهو الأمر الذي انعكس في الثقة العالية التي يبديها الرأي العام في المجلس العسكري. الآن, يبدو أن النخبة, وخاصة المتحدثين منها باسم الثورة, يديرون ظهورهم للشعب ومطالبه بعد توجيه الشكر له علي ما قام به أثناء الثورة, يتحدثون الآن باسمه, يفكرون نيابة عنه, فأين هو التغيير, يطالبون المجلس الأعلي للقوات المسلحة بتنفيذ طلباتهم بالطريقة التي يرونها بينما قد تختلف رؤية المجلس لكيفية تنفيذ تلك الطلبات وأولها تطبيقها ويرغب الثوار في إحداث تغيير لا يمكن حدوثه إلا بتوليهم السلطة. وبما أن ذلك لم يحدث انتقل الثوار إلي الضغط وتكثيف الطلبات من المجلس رغبة في تحقيقها أو احراج المجلس لأنه لا يستطيع أو لانه لا يرغب في تحقيقها علي الأقل الآن. فتوالت المليونيات وطالت قائمة المطالب وتناسلت بشكل شبه يومي, وتطورت تلك المطالب يوما بعد يوم لتضم مطالب لم يكن من الممكن تصور أن تكون موجودة أو يطالب بها أثناء الثورة. الخلاصة أن من يدير أو يحكم يري أنه يقوم بمهمة وطنية تصدي لها بجسارة جنبت الوطن الكثير من المخاطر تنتهي بتسليم البلاد لقيادة منتخبة يكون منوطا بها احداث التغيير المطلوب, ومن لا يدير مدفوعا بالحالة الثورية, يري أنه يمكن التغيير ونقل مصر إلي غير ما كانت عليه في الفترة الانتقالية, ونتيجة الصراع بين وجهتي النظر هاتين يبدو من الصعوبة بمكان ليس علي الأجانب فقط بل وعلي المصريين أيضا ان يجيبوا علي السؤال, من يتحدث الآن باسم مصر تاج العلاء في مفرق الشرق.