ليس هناك شك في أن الحراك السياسي الذي تشهده بلادنا منذ سنوات قد أثمر نتائج إيجابية في مجال تطوير الممارسة الديموقراطية في مجالات شتي. ويمكن القول إن من بين هذه الثمار الإيجابية حرية الصحافة بصورة لم تشهدها مصر منذ عقود طويلة وهذه الحرية جزء لا يتجزأ من الحراك الذي بادر قادة النظام السياسي المصري وفي مقدمتهم الرئيس مبارك ب تفعيله.ويشهد علي ذلك نشوء عديد من الصحف المستقلة والصحف الحزبية, مما جدد من شباب الصحافة المصرية, بما أدخلته بعض هذه الصحف من تجديد في الشكل والمضمون, بالإضافة إلي تطورات كبري لحقت بالصحافة القومية. وهذه الصحافة القومية التي تنعتها بعض الصحف المستقلة والحزبية بأنها حكومية زورا وبهتانا, هي المعبرة فعلا عن صوت الشعب المصري, وذلك لأنها لا تقوم علي أساس التمويل الذي يقدمه بعض رجال الأعمال للصحف المستقلة, مما يجعلها أحيانا لا تكون معبرة تماما عن الصالح العام في توجهاتها, وفي نفس الوقت هي لا تعبر عن الاتجاهات السياسية لحزب ما, والتي قد تؤثر بصورة أو بأخري علي الموضوعية الواجبة في تناول الشأن الوطني, وخصوصا في المجالات السياسية والتنموية. ويشهد علي صدق هذا الحكم علي الصحافة القومية متابعة التحقيقات الصحفية الجسورة التي تنشرها, للكشف عن السلبيات في كل الميادين بصورة نقدية, وباباع أرفع الأساليب المهنية من حيث التحرير والإخراج. ومن بين مظاهر الحراك السياسي الإيجابية تصاعد الحركات الاحتجاجية, وبروز المظاهرات السياسية السلمية والاعتصامات التي ترفع شعارات مطلبية متعددة. ولا شك أن بروز الحركات الاحتجاجية ليكشف عن تحول إيجابي في أداء الشخصية المصرية, لأنها في الواقع تعد أبلغ تعبير عن الانتقال من السلبية إلي الإيجابية. لقد ظلت الشخصية المصرية عهودا طويلة ولأسباب شتي أسيرة الخوف من السلطة, تفاديا للقهر السياسي المباشر أو غير المباشر ولذلك حين تتحرك فئات من الجماهير سواء كانوا عمالا أو فلاحين أو موظفين لكي يمارسوا حق الإضراب للمطالبة بحقوقهم المشروعة, فإن ذلك يدل علي سلوك إيجابي ينبغي الترحيب به. وتعرف جميعا ان عملية إصدار القرار التنموي أحيانا ما يشوبها قصور شديد سواء بسبب قراءة الواقع الاجتماعي, أو عدم جمع المعلومات بصورة صحيحة, أو نتيجة الانحراف في التوجهات الإيديولوجية لصانعي القرار, والتي لا تجعلهم يلقون بالا إلي مصالح الفئات العريضة للجماهير, أو نتيجة لتغليب الصالح الخاص لبعض الفئات الاجتماعية علي الصالح العام. ولذلك تصدر أحيانا قرارات حكومية تصيب بالضرر الشديد مصالح قطاعات عريضة من الجماهير ويحدث كثيرا أن تحتج قيادات هذه الجماهير وتشكوللإدارة, غير أنها لا تستجيب, ولا تقبل التفاوض, ومن هنا لا يعود امام هذه القيادات سوي أن تنظم احتجاجات بطريقة سلمية, قد تأخذ شكل الإضراب أوالوقفات الاحتجاجية. وقد شهدنا عديدا من هذه الوقفات كانت تأخذ مكانها علي سلالم نقابة الصحفيين, باعتبار أن الصحافة في الوعي العام هي المعبرة عن مصالح الجماهير وبعض هذه الوقفات تمت بالفعل امام مبني مجلس الوزراء أو مبني مجلس الشعب ومن الغريب حقا أن بعض هذه الاحتجاجات الجماهيرية ومثالها إضراب موظفي الضرائب العقارية, كانت تستمر أياما متعددة بدون أن تستجيب الإدارة لمطالبهم. وفي هذه الحالة الأخيرة بالذات لم تتم الاستجابة لمطالب موظفي الضرائب العقارية إلا حين أصدر السيد رئيس الجمهورية توجيها صريحا مؤداه إذا كانت لهم مطالب قانونية فينبغي أن تعطي لهم وهكذا استجابت وزارة المالية لمطالب هؤلاء الموظفين. ومن الجدير بالإشارة أن هذا الإضراب تشكلت لجنة خاصة بصورة ديموقراطية لإدارته, نجحت في تنطيمه بشكل دقيق يدل علي ارتفاع وعي الجماهير حين تكون هناك قيادات واعية تقودها. ولا ننسي في هذا المقام الإضراب الذي قامت به مدينة دمياط بأسرها من أول المحافظ إلي القيادات السياسية والشعبية إلي منظمات المجتمع المدني والقواعد الجماهيرية, احتجاجا علي إقامة مصنع أجريوم الملوث للبيئة سنة كاملة عبرت فيها مختلف طوائف شعب دمياط عن رفضها للمشروع, ومرة أخري كان التوجيه الرئاسي لرئيس مجلس الوزراء بضرورة إقامة حوار مجتمعي مع الجماهير حين تنفيذ مشاريع التنمية الكبري وهكذا يمكن القول أن الحراك السياسي الذي وصل إلي ذروته بالتعديلات الدستورية التي اقترحها الرئيس حسني مبارك, والتي نصت علي تحويل الانتخابات التي تجري لاختيار رئيس الجمهورية من نظام الاستفتاء إلي الانتخاب بالاقتراع المباشر تعد علامة علي تحول مهم في النظام السياسي المصري وإذا أضفنا إلي ذلك المادة76 المثيرة للجدل, والتي نصت علي جواز أن يرشح المستقلون أنفسهم لمنصب الرئاسة, فمعني ذلك أن المرشحين قد يخرجون من الأحزاب السياسية بشروط محددة في الدستور, أو من المستقلين. غير أنه يؤخذ علي هذه المادة كما نشرت في أحد مقالاتي بالأهرام أنها تتضمن في الواقع شروطا تعجيزية وقد يكون من الأنسب تخفيف هذه الشروط لتوسيع قاعدة من يرغب من المستقلين في الترشح لمنصب رئيس الجمهورية. وإن كان ينبغي أن نقرر أنه من واقع الدراسة السياسية المقارنة فإن رؤساء الجمهوريات في كل البلاد الديموقراطية المعاصرة يأتون عادة من بين مرشحي الأحزاب. والدليل علي ذلك أنه في فرنسا لم يحدث أن نجح مرشح مستقل في أن ينتخب رئيسا للجمهورية, ولا في الولاياتالمتحدةالأمريكية, حيث يأتي الرئيس سواء من الحزب الجمهوري أو من الحزب الديموقراطي. وأيا ما كان الأمر فإن موضوع بروز دور الحركات الاحتجاجية لقي اهتماما كبيرا من الرأي العام المصري وذلك لأنها ظهرت بأشكال متنوعة, وصاغت خطابات مغايرة في بعض الأحيان للخطاب السياسي للأحزاب السياسية الموجودة علي الساحة. وقد انعقدت أخيرا في القاهرة ندوة عن الحركات الاحتجاجية نظمتها مؤسسة عالم واحد, وعقدت جلساتها في فندق بيراميزا وشاركت فيها نخبة من الباحثين وقد تناولت الندوة موضوعات شتي وقد دعيت للاشتراك في إحدي جلسات الندوة لكي أتحدث عن الحركات الاجتماعية بين التكامل والتناحر. وقد عرض في نفس الجلسة التي شاركت فيها بحثان أحدهما للأستاذ حسين عبدالرازق السياسي والقيادي المعروف في حزب التجمع عن الحركات الاجتماعية الجديد والثاني للدكتور عمرو الشوبكي الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عن هل يمكن للحركات الاجتماعية أن تتحول إلي أحزاب سياسية؟. وهذه جميعا موضوعات مهمة وفيها اجتهادات مختلفة غير أن الرأي الغالب أن هذه الحركات بحكم طبيعتها ونظرا لنوعية قياداتها من الصعب أن تتحول إلي أحزاب سياسية. ستبقي هذه الحركات لا ترفع سوي مطالب فئوية. غير أن الحركات الاجتماعية السياسية من بينها يعيبها الضيق الشديد لقاعدتها الجماهيرية, فهي لا تضم سوي فئات قليلة من الأنصار, بالإضافة إلي أنه لوحظت انشقاقات شديدة بين قياداتها بحثا عن الزعامة, ومعني ذلك أن بعض أمراض الأحزاب السياسية القديمة قد انتقلت إليها, مع أن الأمل كان معقودا عليها لتجديد تقاليد الزعامة والرئاسة في الأحزاب السياسية التقليدية. وقد استقر الرأي في الندوة لدي بعض الباحثين علي الأقل علي أن الحركات الاجتماعية الجديدة لا يمكن أن تحل محل الأحزاب السياسية القائمة. وحين ألقيت بحثي بدأته بعبارة قاطعة مؤداها لا ديموقراطية بغير أحزاب سياسية! وهاجمت بالتالي الدعوات الغوغائية التي صدرت من بعض الأدعياء الذين يزعمون أنهم يرأسون بعض هذه الحركات الصغيرة التي لايزيد عدد أفرادها علي عشرين أو ثلاثين شخصا والتي زعمت أن الأحزاب السياسية قد انتهي دورها وأن الساحة جاهزة لاستقبال القادة الجدد! وفي ضوء ذلك رحبت ترحيبا شديدا بالمؤتمر الذي أقامته أحزاب الائتلاف الديموقراطي, والتي تضم أحزاب الوفد والتجمع الوطني والحزب العربي الناصري وحزب الجبهة الديموقراطية, والذي قدمت فيه رؤية استراتيجية للنظام السياسي المصري تهدف إلي إدخال تعديلات جوهرية علي ملامحه البارزة التقليدية. وفي تقديرنا أن هذا المؤتمر خطوة إيجابية في حد ذاتها, لأننا نادينا مرارا أن نقد الحاضر لا يكفي, بل لابد من تقديم رؤي بديلة يمكن مناقشتها علي أوسع نطاق, لتكون أساسا لرؤية استرايتجية غائبة حتي الآن عن المجتمع المصري!