الا أعتقد أن في مصر اليوم مواطنا أو حزبا أو جماعة لا تتطلع إلي التغيير في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المصرية, فالتغيير تعبير عن حيوية المجتمع وقدرته علي الاستمرار والاستجابة للتغيرات المستمرة في حياة الناس, ونحن في مصر نحتاج إلي التجديد أكثر مما نحتاج إلي التغيير. فالتجديد يعني تعظيم القدرات القائمة وتنقيتها مما لحق بها من ترهل أو تراجع, والتجديد يعني التخلص أيضا من كل ما يعوق قدرات المجتمع الراهنة علي التطور والتقدم. وخلال السنوات الماضية تولدت علي أرض هذا البلد قدرات وأفكار وسياسات جديدة أسهمت في حماية مصر من التراجع, وعظمت قدرتها علي النمو. قد نري اليوم أن هذه القدرات بحاجة إلي مزيد من الدعم والتجديد لتحقيق معدلات أداء أفضل, ولكننا لسنا بحاجة إلي تغيير كل شيء في مصر, وإلا كان المعني هو أن نبدأ من الصفر. ومهما يكن أمر التغيير والتجديد, فإن الملاحظ أن التغيير في مصر هو رغبة أكثر منه قدرة علي تحديد الأبعاد وإعداد المقومات وتوفير الآليات, فالعلاقة التي تربطنا بالتغيير تقف عند حدود الأمنيات ولاتتجاوزها إلي المشاركة والتفاعل في صناعته. ثم إن التغيير, كما نطرحه, يقف عند حدود شخص يحل محل آخر. وهذا النمط من التغيير لايصنع جديدا ولايغير واقعا, فالرغبة في تغيير الأشخاص والأسماء تجعلنا لانعي جيدا التغييرات التي تحققت والتي يمكن بناء المزيد من التغيير عليها. والحقيقة أن المنادين بالتغيير والزاعقين كثيرا من أجله لايدركون جيدا الواقع البديل الذي يدعوننا إليه. فمصر بلد بكل المعايير أكبر حجما وأعمق تأثيرا من أن تخضع للتجريب أو المغامرات غير المحسوبة. فالتغيير إما أن يكون إلي واقع أفضل وإلا فلا حاجة لنا به. والمتابع للمشهد السياسي الراهن سوف يجد التغيير سمة أساسية من سمات الخطاب السياسي المعارض للحزب الحاكم, بينما يجد التجديد غالبا في خطاب الحزب الوطني. فالخطاب السياسي المعارض شديد الإلحاح علي التغيير, بل أصبح محور جميع الأنشطة التي تقوم بها أحزاب المعارضة وغيرها. والمؤسف حقيقة هو أن هذا المحور الأساسي يقف عند حدود تغيير أشخاص وليس سياسات أو برامج, فأحزاب المعارضة تري أن الحزب الوطني ظل في الحكم طويلا وهذا وحده يبرر التغيير, وأنه آن الأوان للدفع بحزب آخر نحو سدة الحكم. فمع حزب آخر سوف تأتي أسماء وشخصيات أخري وبهذا يتم التغيير. لا أحد يتحدث عن الناخبين ولا عن برامج تلك الأحزاب لمواجهة مشكلات الدولة وقدراتها علي قيادة دولة في حجم مصر. المهم أن يقع التغيير بمجيء أسماء وشخصيات جديدة. علي الجانب الآخر يبدو وكأن هناك رؤية مختلفة في الخطاب السياسي للحزب الوطني, حيث شهدت السنوات الماضية الكثير من التجديد في البنية السياسية والاقتصادية والتشريعية والاجتماعية, وجاءت النتائج في كل الحالات إيجابية بالنظر إلي حجم المشكلات التي كانت مصر تواجهها. وربما كان إحدي الضمانات الأساسية التي كفلت نجاح برامج الحزب الوطني خلال السنوات الأخيرة, هي أنه ارتكز إلي واقع قائم وفهم عميق لما سوف يئول إليه التجديد. فلقد بني الحزب تصوراته المستقبلية علي رؤية تستلهم معطيات الواقع فاختار التجديد ليعطي القوي الفاعلة في الواقع, الراهن الفرصة لأن يستمر عطاؤها في المستقبل الجديد. ولذلك لم يكن التغيير في برامج الحزب الوطني وسياساته مفاجئا أو معتمدا علي الطفرات أو القفزات, فكفل استقرارا هائلا لمختلف جوانب الحياة في مصر برغم حجم التغيير الذي طرأ علي كل شيء في حياتنا. التغيير في خطاب المعارضة ناتج عن احتقان سياسي وعجز واضح في التواصل مع جماهير الناخبين, والوجود النشيط والفاعل مع الجماهير أينما كانوا, والتجديد في الحزب الوطني جاءت به سنوات الخبرة السياسية, وفهم الواقع المصري وتطوراته خلال نصف القرن الماضي وتواصل الأجيال داخل صفوف الحزب. وسوف يجد الناخب في نهاية الأمر أن الانحياز للتجديد الذي يكفل التواصل بين اليوم والغد أفضل كثيرا من التغيير المبني علي رفض الواقع المعيش لحساب مستقبل غير محدد المعالم أو واضح القسمات. ربما كانت النصيحة للأحزاب السياسية في الانتخابات المقبلة هي أن تقدم للناخب شيئا مما يمكن تحقيقه بدلا من إشعال الغضب والسخط علي واقع ليس بهذا السوء الذي يتحدثون عنه. فهو واقع يمكن المصريين من الحياة والعمل والإنتاج والأمل في غد أفضل. وفي المشهد السياسي الراهن تسود الحالة الانتخابية بما تبيحه للاعبيين السياسيين من ممارسة كل أساليب الدعايات السياسية. فبينهم المهرجون الراغبون في الظهور علي مسرح الأحداث مهما تكن الأدوات. ويزداد صراخهم كلما تقلصت فرص نجاحهم وتراجعت شعبيتهم. ومنهم من امتلأ جرابه بالاتهامات لكل من لايسايرهم أو يمشي في فلكهم. ومنهم حديثو العهد بالسياسة يوزعون الشرعيات علي النظام وعلي الأحزاب بصورة هزلية, تكشف عن ضحالتهم الفكرية وعدم قدرتهم علي التكيف مع مسرح سياسي له طبيعه خاصة. وبين هؤلاء من يلوح بالخارج ووسائل إعلامه, تدفعه أوهامه إلي الاعتقاد بأن قوي الخارج قادرة علي توجيه الأمور لمصلحته. في دعايات الانتخابات نتجاوز كثيرا عن أساليب غير مقبولة, ولكنها ينبغي ألا تطول مصالح الوطن. فمن حق كل الأحزاب أن تبحث عن فرصة للفوز والوجود, ولكن بشرط أن نحافظ علي تماسك الوطن وقدرته علي الاستمرار في التطور والنمو والاستقرار في المجالات المختلفة حتي نليق بمصريتنا, وأن نفتخر بأن الجيل الحالي استطاع أن يبني نظاما سياسيا يليق بحاضرنا وقادرا علي التطور في المستقبل ليستوعب طموحاتنا وقدرتنا المستقبلية, وعلينا أن نقولها بصراحة للجميع إن تلك ليست مسئولية حزب الأغلبية وحده, فقد يكفي هذا الحزب أنه صنع التغيير السياسي ويكرسه, وقد يرضيه أن يري الآخرين يتخبطون والأخطاء تلاحقهم من كل جانب, فتراهم يتزاحمون حول جماعة غير شرعية لتعطيهم جزءا من قدرتهم في الشارع, بالمخالفة لأوضاعنا ومصلحة التطور السياسي الذي يجب أن يتم علي أسس من الشرعية واحترام الدستور الذي لا يسمح للأحزاب الدينية بأن تدخل للحلبة السياسية بغطائها الديني. وبقيت نقطة أخري يجب أن نشير إليها بكل وضوح, وهي أن اللاعبين علي المسرح السياسي عندما يجدون في أنفسهم عدم القدرة علي مناقشة الحزب الوطني الديمقراطي يلجأون إلي نغمة ممجوجة تسئ إلي العمل السياسي وإلي مناخ التطور والإصلاح السياسي بحديثهم عن التوريث, مستغلين وضع الأمين العام المساعد للحزب الوطني وأمين السياسات السيد جمال مبارك الذي هو سياسي حزبي مرموق لا يمكن إنكار دوره في حزبه أو التقليل من شأنه أو أن يلجأ إلي القول إنه ابن الرئيس, وهم يعلمون قبل غيرهم أن جمال مبارك لم يعتمد يوما في عمله وسعيه الحزبي الدءوب علي أنه ابن الرئيس, والكل يشهد اليوم أن الرصيد السياسي لجمال مبارك في الحزب الوطني كبير, فلقد قاد تيارا إصلاحيا داخل حزب الأغلبية في سنواته العشر الأخيرة, وهي السنوات التي كشفت عن روح جديدة في مصر لاستثمار ما تحقق في سنوات الثمانينيات والتسعينيات من بناء بنية اقتصادية كبيرة وقوية, فكان هناك تحول واضح, وعلي كل الذين ينتقدون ويرفعون شعار التوريث, وهم أكثر المستفيدين من هذا المناخ وتلك الحرية, أن يتسموا بالموضوعية والتقييم الصحيح للحراك السياسي. فالحقيقة التي لا شك فيها حتي بين اللاعبين السياسيين الحاليين هي أن هذا الجدل والحوار الساخن كان ثمرة من ثمار التعديلات الدستورية الأخيرة, ومن نتاج فلسفة حكم, أظهرت من الاحترام والالتزام بحرية التعبير وأهمية الحراك السياسي ما لم تشهده الساحة السياسية المصرية من قبل