شاءت المقادير أن أسافر إلي الدنمارك يوم11 سبتمبر الجاري لتغطية الانتخابات البرلمانية التي أجريت الخميس قبل الماضي وأسفرت عن فوز معسكر اليسار الذي تقوده السيدة هيله ثورننج شميدت زعيمة الحزب الاشتراكي الديمقراطي علي حساب ائتلاف يمين الوسط الذي يتزعمه لارس لوكي راسوسن لتكون أول سيدة تحكم البلاد وتقود بوصلتها نحو اليسار وهو مايمكن أن يتكرر في بلدان أوروبية عديدة في الانتخابات المقبلة بعدما مل الناخبون من سياسات اليمين والأحزاب المحافظة التي استأثرت بالحكم تقريبا منذ هجمات11 سبتمبر2001. ذهبت إلي العاصمة الدنماركية كوبنهاجن وأنا أحمل صورة للدنمارك ألقت عليها قضية الرسوم المسيئة للرسول الكريم في2005 بظلال قاتمة كما أنني مازلت متذكرا لكون الدنمارك كانت ثالثة أكثر الدول من حيث عدد القوات التي شاركت في غزو العراق بعد الولاياتالمتحدة وبريطانيا وأنها لاتزال متورطة في غزو أفغانستان وتشارك بدور نشط في عمليات حلف الناتو بليبيا كما لايمكن أن أغفل دلالة يوم سفري وهو الذي تزامن مع حلول الذكري العاشرة لتفجير البرجين وما تلاه من إعلان الولاياتالمتحدة وحلفائها مايسمي بالحرب علي الارهاب التي انتهت باحتلال أفغانستان ثم العراق وأعادت ترتيب أجندة السياسة الدولية وما ارتبط بذلك من انتشار ظاهرة الإسلامو فوبيا علي نطاق واسع في الغرب ضد كل ما يرمز إلي الإسلام حتي وصل بنا الحال أن رأينا بلدا معروفا بتسامح شعبه مثل سويسرا تحظر بناء المساجد وهو ما شجع بلدانا أخري مثل فرنسا التي تضم أكبر جالية إسلامية في أوروبا علي حظر النقاب. ورغم كل هذه الخلفية فقد كنت علي استعداد للتخلي عن هذه الأفكار المسبقة أو مراجعتها في الحد الأدني من واقع تجربتي ومشاهداتي أثناء متابعة المعركة الانتخابية التي جرت في جو من الشفافية والنزاهة فقد كانت كل القضايا التي يشعر بها الناخب مطروحة للنقاش العام سواء فيما يتعلق بتباطؤ نمو الاقتصاد أو دمج المهاجرين ومراجعة قوانين الهجرة أو الاعتراف بفلسطين في الأممالمتحدة.. كل هذه القضايا كانت مجالا للصراع بين المرشحين والتكتلات المتنافسة دون أن تخرج المناقشات عن أداب الحوار أو تنزلق إلي فخ التزييف والنيل من الخصوم وغيرها من أعمال البلطجة وهذا لا يعني بأي حال أن المعركة الانتخابية كانت محسومة أو باردة بل علي العكس كانت ساخنة جدا ولم تحسم نتيجتها إلا مع فرز الصندوق الأخير. واللافت أننا طوال إقامتنا في كوبنهاجن لم نلمس أي وجود للشرطة ولم تكن لها أي دور في صناديق الاقتراع حيث تتولي الأحزاب بنفسها إدارة العملية الانتخابية من الألف إلي الياء دون أن يتهم أحد منافسه بالتزوير أو يلجأ إلي الالتفاف علي إرادة الناخبين لتقليص فرص هذا الفصيل او ذاك ببدع من قبيل المبادئ فوق الدستورية وما شابه. وأستطيع أن أقول إن الشفافية التي تجري بها الانتخابات ليست منفصلة عن أسلوب الحياة في الدنمارك فكل شئ يتم علي المكشوف والمواطن بلغ درجة من الوعي تجعله قادرا علي الاختيار كما ان السياسة ليست حكرا علي السياسيين مثلما هو الحال عندنا لكنها تتغلغل في أوصال المجتمع بمختلف فئاته العمرية وقلما تقابل شخصا لا ينتمي إلي حزب سياسي وإذا حدث فغالبا سيكون من المهاجرين الذين فشلوا في الاندماج مع ثقافة المجتمع الجديد. ومن واقع خبرتي فإن الدنمارك تقدم نموذجا للمجتمع المتصالح مع نفسه والذي يعرف أفراده ماذا يريدون ووسيلتهم إلي ذلك العمل الجاد والبعد عن المظاهر الكاذبة فالكل أمام( الدراجة) سواء لا فرق في ذلك بين وزير وخفير ولو حدث وذهب مسئول مصري رفيع إلي عمله راكبا دراجة لاتهموه بالجنون ولتحول إلي مادة مثيرة لرسامي الكاريكاتير في الصحف والمجلات. لقد تحولت الدراجة, وسيلة المواصلات الأكثر شيوعا في الدنمارك إلي أسلوب حياة يحكمه الانضباط فلا مجال لكسر الاشارة من أي نوع سواء كنت تستقل دراجة أم سيارتك الخاصة او حتي مترجلا علي قدميك اما الشوارع فهي في قمة النظافة فلا يعرف الناس ثقافة إلقاء القمامة في الشوارع او من نوافذ سياراتهم والحق أنني لم أر ذبابة واحدة طوال إقامتي في كوبنهاجن أما تنظيم الشوارع فأمر يبعث علي الدهشة فلا مجال للعشوائية والارتجال ولايوجد شئ لم يحسب حسابه فأماكن السيارات محددة بدقة وكذلك أماكن الدراجات وحتي السلالم التي تربط بين المحطات تم تخصيص مساحة منها لسير الدراجات لتشجيع الناس علي استعمالها باعتبارها وسيلة مواصلات صديقة للبيئة فضلا علي أنها تحافظ علي رشاقة قائدها في مجتمع معروف بإقباله علي الحياة والطعام. ليس هذا فحسب بل إن الشوارع تم تخصيص مسار فيها لمن حرموا من نعمة البصر ومن الأمور اللافتة أيضا أننا لم نر كلبا ضالا واحدا ولم لا والحكومة تشمل الكلاب بمظلة التأمين الصحي والضمان الاجتماعي لدرجة أنه لو كان هناك شخص عاطل عن العمل وعنده كلب تتم زيادة مايتقاضاه من بدل مراعاة للكلب الذي لا ذنب له. ولا ينافس النظام في الدنمارك إلا الهدوء الذي ينعم به المواطن فلاصوت لسيارينة سيارة ولا صوت لأي صدام بين قائدي السيارات وكأنك عندنا تعيش في الوادي الجديد تذكرت كل هذا مما يحدث في القاهرة من صخب يدمر الأعصاب وعادم سيارات يفتك بالصحة وبلطجة سائقي الميكروباص وانتشار الورش والأسواق العشوائية في قلب الأحياء السكنية والحق أنه لم يطل بي المقام حيث قطعت المسافة بين مطار القاهرة وعين شمس عقب العودة في نحو ساعتين وهي مسافة تصل إلي ضعف المسافة التي يقطعها بعض العاملين في الدنمارك ويقيمون في السويد هربا من ارتفاع سعر السكن. لقد تمنيت أن نصل في مصر إلي مستوي التحضر الذي بلغته الدنمارك حتي ولو بعد100 عام من الأن ولو حدث هذا فسيكون انجازا عظيما لأن ثمة فارقا كبيرا بين ما شاهدت هناك وما يحدث هنا وأغلب الظن أن سر المعجزة الدنماركية يكمن في كلمتين هما النظام والعمالة الماهرة فكل شئ هنا( ديجيتل) وكروت الفيزا قضت أو كادت علي التعامل بالعملات الورقية كما أن أقل عدد من العمالة المدربة يكفي لانجاز المهام خذ مثلا الفندق الذي اقمنا فيه والذي يتسع لعدد هائل من النزلاء لكن العمالة به لا تزيد علي أصابع اليدين دون أي تأثير علي جودة الخدمة التي تأتي بأسرع ما يمكن وعلي أحسن ما يكون. وكانت المفاجأة أن الدنمارك ليست بلدا للتعصب بقدر ما هي تتسع لكل الأطياف من أقصي اليمين لأقصي اليسار شريطة احترام تقاليد المجتمع الذي يحتضن الكل وحتي الذين تورطوا في أزمة الكارتون المسئ لم يكن دافعهم الإساءة للإسلام كدين لكن لكل المتدينين حسبما اكد لنا الكثيرون إن سماحة الدنمارك تشمل المسلم والمسيحي واليهودي وحتي الفوضويون الذين يناهضون فكرة الدولة ويعيشون في( جيتو) خاص بهم يمارسون طقوسهم الغريبة دون أن يتعرضوا للاضطهاد وما اكثر ما قابلنا من محجبات في الدنمارك دون أن يجرؤ أحد علي مضايقتهن ولو فعل لتعرض لعقوبة مغلظة. إن مشكلة الدنمارك الحقيقية مع الأجانب تكمن في الحرص الشديد علي دمجهم في المجتمع كي يكونوا إضافة لدولاب الانتاج وحتي لا يتحولوا إلي عبء علي الاقتصاد ويعيشون علي بدل البطالة بدليل أن النماذج الناجحة ليس لها أي مشكلة وما اكثر ما قابلنامن فلسطينيين وعراقيين وأتراك واكراد ينعمون بفرص ومكانة اجتماعية لا تتوافر لهم في بلدانهم كما أن الجالية المصرية تحظي باحترام وتقدير كبيرين بفضل زواج أفرادها من دنماركيات وكسب أفرادها احترام المجتمع الدنماركي فهناك عالم مصري متخصص في الخلايا الجذعية ومشهور علي مستوي العالم وهناك مغنون ومتخصصون ورجال أعمال يشار إليهم بالبنان وهذا راجع إلي أن غالبية عناصر الجالية المصرية متعلمون كما انهم حصلوا علي الجنسية في ظروف أفضل من الظروف التي أعقبت هجمات11 سبتمبر. لقد تغيرت الدنمارك إلي الأحسن بعد الانتخابات وتعيش الجالية العربية والاسلامية التي شاركت لأول مرة في الانتخابات بفاعلية علي أمل الوفاء بوعودها بل ويحلمون بان تنتقل العدوي إلي الدول الأوروبية الأخري للحد من نفوذ اليمين الذي تسلط عليهم عقب11 سبتمبر ويدللون علي ذلك بتداعيات تفجيرات السويد التي سرعان ما توجهت أصابع الاتهام إلي الجماعات الإسلامية قبل ان يتم التأكد من فاعلها الأصلي الذي يعتنق افكارا متطرفة ضد الغرب والإسلام علي السواء. بقي أن أقول إنه ما من مكان ذهبنا إليه إلا وقوبلنا بترحيب حار باعتبارنا ضيوفا وكانت حرارة الترحيب تصل إلي أقصاها عندما يعرف مضيفنا أننا مصريون فالثورة المصرية لعبت دورا كبيرا في تحسين صورة المصري في الخارج كشعب يتوق إلي الحرية ويرفض الاستبداد أو علي حد وصف السفير المصري في كوبنهاجن نبيل حبشي سهلت عمل الدبلوماسيين المصريين في الخارج وجعلت العالم ينظر إليهم نظرة إكبار واحترام.