لم تستطع هند خيرة فنانة الجرافيك مشاركة المعتصمين في المبيت خلال الاعتصام الذي امتد من الثامن من يوليو الماضي وحتي ساعات قليلة قبل موعد الإفطار في الاول من اغسطس الجاري. لهذا كانت تبحث عن وسيلة تؤكد فيها إلي جانب مشاركتها في التظاهرات وساعات الاعتصام النهارية التالية لانتهاء مواعيد عملها انها تساند هذا الاعتصام في مطالبه المعلنة بالمحاكمة العادلة لقتلة الشهداء وعزل الضباط القتلة ومنعهم من التأثير علي اسر الشهداء والشهود في القضايا المختلفة. لم يكن امامها مخرج وقتها سوي الفن لهذا قامت هند برسم نموذج الاستنسيل ثم قامت بتفريغه تمهيدا لوضعه امام المارة في الشوارع المجاورة لميدان التحرير. وفي مساء احد ايام الإعتصام وجد المارة هند رستم علي الحائط متوعدة حسني مبارك قائلة: هنجيبك من شرم يا سونة يا خاين. العمل الفني الذي استلهمته هند خيرة من فيلم إشاعة حب الشهير هو حلقة في سلسلة طويلة من الأعمال الفنية التي حلم فيها الشباب بما كان يبدو بعيدا محاسبة الحاكم علي ما ارتكبه في حق الشعب وبينما كان الفن الرسمي يتغني بانجازات الحاكم. في الشوارع وعلي الانترنت كان هناك فن آخر يجرؤ علي الحلم تمهيدا للثورة. يعرفه العالم باسم فن الاندر جراوند أو فنون ما تحت الارض, تلك الفنون التي تمارس بمعزل عن السلطة وفي مواجهتها ويمارسها شباب حر لا يبغي من وراء فنه سوي الإبداع والتعبير عما يعانيه المجتمع أمام عسف الحكام. في عام2007 وبينما تنتشر شائعات حول صحة الرئيس السابق في الوقت الذي يؤكد فيه الاعلام الرسمي أنه بخير ولم يمسه سوء ظهرت أغنية تم تداولها في البداية علي نطاق ضيق في اوساط المدونين ورواد المنتديات المهتمة بالسياسة وسرعان ما انتشرت لتصبح واحدة من أشهر الأعمال الفنية القادمة مما يسمي عالم الانترنت السري في مصر الأغنية التي كانت تغني مبارك مات في معارضة ساخرة لقصيدة جيفارا مات للشاعر احمد فؤاد نجم وصديقه الملحن الراحل الشيخ غمام عيسي وعبر لحن مغاير تماما يعتمد علي تراكيب بسيطة تعزف علي آلة الجيتار وغناء ذي اسلوب غربي واضح يغاير تماما لحن الشيخ إمام عيسي للقصيدة السالفة الذكر. في مطلع الاغنية يخرج صوت محاكيا لصوت الرئيس الراحل انور السادات سلف مبارك, يدلي بخطاب يشبه ذلك الذي ألقاه السادات في رحيل جمال عبد الناصر ثم يقول: وقد أغلقت اليوم مستشفي مبارك, ومخزن مبارك, وطريق مبارك ومركز مبارك للطب وسيقام العزاء في مسجد مبارك. وسيخلف مبارك مبارك وإنا لله وإنا إليه راجعون. أما الاغنية نفسها فلا حدود فيها لما يجب ان يقال وما هو مرفوض. لقد قرر الفن وقتها أن يكسر الأسقف والقيود مستغلا الحرية التي انتزعها المتعاملون في الواقع الافتراضي. لا يعني هذا أن الانترنت وحده كان الساحة الفنية التي يتنفس فيها شباب صاروا هم طليعة الثورة لاحقا معلنين عن غضبهم في وقت السلطة وكاسرين هيبة الحاكم الجاثم, فخلال السنوات القليلة السابقة علي ثورة الخامس والعشرين من يناير تقدم فن غناء الراب في مصر الذي كان يبحث عن مساحات للتواصل المباشر مع الجمهور عبر المراكز الفنية المستقلة في الشوارع, ليصبح مدرسة مستقلة لا تحاكي موضوعات غناء الراب الغربية في شئ.. لم يأخذ الراب المصري من الغربي سوي روحه وفلسفته هو غناء الشارع للشارع لا اطر ولا قواعد محددة سوي القدرة علي صوغ الشعر القصير الحاد المعبر والمباشر علي إيقاعات بسيطة سريعة لا تهتم بجمال صوت المطرب قدر ما تهتم بابراز المقاطع والضغط علي الاكثر اهمية منها سياسيا وإجتماعيا استطاعت فرق مثل واي كرو فاميلي ومطربون مثل ميدو راب وعمر بفلوت ان يطرحوا قضايا سياسية واجتماعية مباشرة وصريحة لم يكن مبارك بمعزل عنها علي الإطلاق بل كان موضوعا حاضرا فيها في حديث اولئك الفنانين عن رأس الدولة الفاسد الذي يتغني له فنانون آخرون يكرمون باستمرار في دوائر السلطة ويدعي بعضه المعارضة دون أن يجرؤ علي أن يمس الحاكم. في الوقت الذي كان فيه شباب بامكانات متواضعة في أقاليم مصر وعبر ميزانية ضئيلة لا تتجاوز500 جنيه فقط لا غير ينتجون عروضا مسرحية ترصد الفساد في المستويات العليا للسلطة, وعبر آلية نوادي المسرح في الاقاليم التابعة لوزارة الثقافة كان شباب الهواة يصنعون عروضا قصيرة نجحت في تأكيد أن الشباب الذي يحيا بعيدا عن القاهرة وبعيدا عن الإنترنت لديه ذات التطلعات الخاصة بكسر هيمنة الاجنحة العليا في السلطة علي المشهد السياسي ومصادرته. علي الارض كان فنانون الجرافيت هم الاعلي صوتا. قبل عامين من الثورة في2009 استيقظ مواطنو الزمالك علي رسوم تملأ الحائط لفنان مجهول يرجح البعض انه محمد فهمي( موفا) او جنزير كانت الرسوم تتنبأ بالصورة التي تحلق المصريون حول اجهزة التلفاز الصغيرة المتناثرة في المحال صباح اليوم الثالث من رمضان الثالث من اغسطس.. صورة حاكم ظن المصريون أنه باق لن يموت, وأنه سيخلفه يوم موته مبارك جديد. كانت صورة جنزير تختصر وجه مبارك قابعا في غضب وتنمر خلف قضبان ابتناها لنفسه مما ارتكبه من جرائم في حق الشعب.