كان تأثير هذه الاحتجاجات فاعلا في هز الموقع والموضع لمختلف القوي السياسية سواء في دول الاحتجاج أو تلك المجاورة المهيأة ظروفها لاستقبال عدوي التغيير. المجتمعات الأوروبية لم تعد تأبه بما تقوله نخبتها الحاكمة التي فشلت في تحقيق أحلامها وطموحاتها, الأمر الذي افقدها آخر ما تبقي من ثقة لدي شعوبها التي استهلمت تجربة الشباب العربي في قدرته علي تغيير الأوضاع السياسية الراكدة عبر المظاهرات السلمية التي أطاحت بالأنظمة المستبدة في مصر وتونس اضافة إلي اليمن وسوريا وليبيا التي هي في طريقها إلي التغيير. وتواجه العديد من الدول الأوروبية اليوم, وخصوصا اسبانيا واليونان وفرنسا والتشيك تظاهرات حاشدة من قبل الشباب الغاضب الذي صار مقتنعا بأن قادته غير قادرين علي الوفاء بتطلعات شعوبهم التي تعاني تدنيا في مستوي المعيشة اضافة إلي تفاقم الأزمة المالية والركود الاقتصادي, وكذلك تنامي ظاهرة الانحرافات غير الاخلاقية التي أصابت طبقة السلطة. والأرجح أن مواقع التواصل الاجتماعي, وفي القلب منها موقعا تويتر و فيس بوك لعبت دور البطولة في هذه الاحتجاجات وليس أحزاب المعارضة أو النقابات العمالية, حيث نظم المحتجون نشاطاتهم عن طريقها اعتراضا علي واقع منهك اقتصاديا ومأزوم سياسيا. وكان تأثير هذه الاحتجاجات فاعلا في هز الموقع والموضع لمختلف القوي السياسية سواء في دول الاحتجاج أو تلك المجاورة المهيأة ظروفها لاستقبال عدوي التغيير. وبالاضافة إلي تزامن الاحتجاجات التي تعيشها أوروبا مع ربيع الثورات العربية, فقد اقترنت برياح الأزمة المالية التي مازالت آثارها تعصف بأوروبا وتزيدها انغماسا في الهم الداخلي جنبا إلي جانب تباطؤ النشاط الاقتصادي وحالة من الترقب المشوبة بالحذر, خصوصا وأن ثمة تراجعا للثقة في اقتصاد منطقة اليورو بسبب تدهور الثقة في الاقتصاديات الأوروبية ونظم إدارتها. وعلي صعيد ذي شأن مازالت بعض الدول الأوروبية, وفي مقدمتها اليونان واسبانيا عاجزة عن إجراء تكييفات هيكلية تقيلها من عثراتها الاقتصادية, فالأولي تقف علي حافة الإفلاس وتواجه سخطا شعبيا بشأن خطتها التقشفية المفروض عليها من قبل مؤسسة الاتحاد الأوروبي, بينما قفز معدل البطالة في الثانية بشكل سريع ليصل إلي ما يقرب من22%, وهي نسبة قياسية في بلد صناعي, وتتشابه المعاناة أيضا في فرنسا التي جاءت احتجاجات شبابها كرد فعل علي مضي النظام في مساندة الرأسماليين علي حساب الطبقة الكادحة, وعلي خطط خصخصة مؤسسات الدولة, في مقابل تدني مستوي الأجور, وارتفاع فاحش لمستويات المعيشة, وكذلك الحال في التشيك التي هدد اتحاد رابطة النقابات المستقلة بتنظيم اضراب عام حال عدم اتخاذ اجراءات عملية لإصلاح نظام المعاشات والرعاية الصحية التي تعاني تدهورا. كما كان بارزا جمود السياسة الخارجية الأوروبية وتناقضها خلال الفترة الماضية حيال مختلف القضايا الدولية, وبدا ذلك في التخبط الأوروبي إزاء الثورات العربية ومعاناة شعوبها من أعمال العنف والقهر من قبل الأنظمة الحاكمة. والأرجح أن التطورات السلبية في المشهد الاقتصادي والسياسي, وفشل الحكومات الأوروبية في التعامل مع هذه الاشكاليات وتداعياتها كان سببا مباشرا في دفع المجتمع لأن يحذو حذو العرب ويخرج إلي الشوارع والميادين للضغط من أجل تغيير حكوماتهم العاجزة عن استيعاب طموحاتهم, وكان بارزا هنا, استلهام الشباب الأوروبي لروح الشعارات والنكات التي رفعها المحتجون في ميدان التحرير وغيره من الميادين العربية, كما نقل جماهير المتظاهرين عن ثوار التحرير في مصر استراتيجيات الحشد والتظاهر والاعتصام وتكتيكات التعامل مع الحصار الأمني. ونجحت الشعارات والهتافات المتداولة في ساحات التغيير الأوروبية في رسم جزء كبير من خريطة المشهد المتبادل في الفعل ورد الفعل بين المحتجين من ناحية والحكومات من ناحية أخري, فضلا عن اتسامها بالدقة والجرأة في التعبير عن المطالب اضافة إلي عمقها السياسي. وجاء المشهد الافتتاحي للاحتجاجات حاملا الشعارات التي تندد بالبطالة وغياب العدالة الاجتماعية, فلطالما كانا هما الهم الأول للشعوب الأوروبية, والدافع الأساسي لها. وأسهمت الشعارات الافتتاحية للاحتجاجات لسنا سلعة في أيد البنوك والسياسيين والديمقراطية الحقيقية الآن منذ البداية في تجنب الخلافات السياسية والفكرية بين المشاركين في الاحتجاجات والداعين لها, كما عبرت شعارات مثل أكيد أنهم لا يمثلوننا و اللصوص.. اللصوص و صح النوم باريس والتي رفعها المحتجون بمختلف المدن الأوروبية بدقة متناهية عن الاستياء والسخط الشعبي ليس علي النخب الحاكمة فحسب, وإنما علي مختلف القوي السياسية. أيضا بدت إلهامات الثورة المصرية وشعاراتها جلية في الاحتجاجات التي شهدتها المجر احتجاجا علي قوانين إعلامية جديدة مثيرة للجدل, وكان شعار يمكنني أن أكون مصريا أنا الآخر. المهم أن الاحتجاجات الأوروبية التي استلهمت روح الثورات العربية جراء إجراءات التقشف التي اتخذتها حكوماتها برزت أولي تداعياتها في خسارة الحزب الاشتراكي الحاكم في اسبانيا لعدد غير قليل من مقاعده في الانتخابات البلدية التي أجريت في22 مايو الماضي, وكذلك الحال في اليونان التي تشهد اليوم دعوات قوية لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة بعدما تبين أن التوترات الاقتصادية و السياسية تتصاعد في البلاد, وفي فرنسا أيضا مني الحزب الحاكم في انتخابات المجالس المحلية التي أجريت في20 مارس الماضي بهزيمة فادحة أحدثت انقسامات حادة بين أعضائه قد تكون الأولي من نوعها في تاريخه. علي جانب ثان فإن تنامي ضغط الاحتجاجات الشعبية جراء تداعي أداء الحكومات قد يفرز تطورات سلبية علي النخب الحاكمة الآن بأوروبا, فرياح التغيير بدأت تهب من العالم العربي علي أوروبا وشعوبها الذين سئموا أوضاع حكامهم, طامحين أن يأتي جيل جديد يحقق ما عجز عن تحقيقه نخب ترهلت أفكارها, وشاخ حماسها, وهو الأمر الذي قد يهيء الأجواء العملية لاستقبال قطار التغيير القادم من قلب العالم العربي إلي أوروبا.