استوقفتني شجرة الكافور العتيقة المتجذرة في الأرض بقوة حينما كنت أسير خلف مسجدالبلاسي قالوا إن جذورا تمتد لتصل إلي مسافات بعيدة وكانت هذه الشجرة ذات ساق ضخمة جدا ذات أفرع كثيفة مهوشة. تغطي أسطح البيوت المجاورة لها. تواترت الأقاويل بأن الذي زرع هذه الشجرة هو سيدنا صالح البلاسي أحد أولياء الله الصالحين الذي أتي من بلاد المغرب علي ظهر أسد حسب الروايات التي تناقلتها الأجيال ولذا فقد حمل الكفر الذي نعيش فيه اسمه فصار كفر البلاسي فعاش ومات فيه وأصبح له مقام يحمل اسمه ايضا مقام البلاسي ولما أطلت النظر إلي هذه الشجرة داخلني إحساس بأنها شجرة مباركة لأن الذي زرعها رجل مبارك. وكان بين شجرة الكافور ومقام سيدي صالح البلاسي حجرة صغيرة يقيم فيها العم الشحات وهو رجل قصير القامة ممتلئ الجسد إلي حد ما.. يرتدي جلبابا فضفاضا وينتعل دائما بلغة قديمة وإذا نظرت إليه تستشعر أنك أمام واحد من أولئك الرجال الذين أكل عليهم الدهر وشرب حتي شبع وارتوي فكان مقوس الظهر شاحب الوجه لاتفارق طاقيته المصنوعة من الصوف رأسه ولا تفارق الارتعاشة جسده لاتتمكن عيناه من الرؤية بوضوح نظرا لكونه بلغ من الشيخوخة ما بلغ وعلي الرغم من كل هذا كان العم الشحات يقوم علي خدمة المسجد والمقام معا ولما كان باب الحجرة مواربا حانت مني نظرة للداخل. فكان العم الشحات نائما علي الأرض يفترش بطانية رمادية اللون عليها كثير من البقع والحروق وكانت الحجرة ضيقة لدرجة أن الداخل فيها أقرب ما يكون داخلا إلي مقبرة وكان المصباح الكهربي المتدلي من سقفها يبدو باهت الضوء يضفي علي العم الشحات وعلي الأشياء من حوله لونا شاحبا كأنه لون الموت.. وكان العم الشحات يبدو من خلال بصيص الضوء كهر عتيق تخيم علي جسده ارتعاشات متتالية...دلفت إلي الحجرة لا أعرف لماذا؟ ولما استشعر أن أحدا معه داخل حجرته فتح عينيه مبتسما وكأن إحدي أمنياته قد تحققت. أذكر أن جدي قال لي يوما إن أهم شيء في حياة العم الشحات أن يأتي الناس قاصدين حجرته ولما لم يتحقق له ما يريد أيقن أنه بين الناس بلا قيمة وبلا ثمن وتأكد له أن أحدا لن يدخل إلي حجرته ربما لضيقها الشديد أو ربما قرفا من شيخوخته التي تتزايد يوما بعد يوم سألت أمي ذات مساء عن هذا الرجل الذي يبدو برغم ما يعانيه من الضعف الذي أصاب جسده من الإهمال الذي يلاقيه من الناس إلا أنه حريص كل الحرص علي نظافة المسجد الكبير حتي يجعله علي أكمل وجه, وكذلك يرعي شئون مقام سيدي صالح البلاسي لدرجة تستلفت النظر فقالت: جاء وحيدا من بلاد بعيدة ليس له أقرباء يزورونه.. فتح العم الشحات عينيه الصغيرتين الضيقتين وأشار بيده تجاه موقد الكيروسين وقال بصوت خافت: نشرب الشاي معا أشعلت الموقد ووضعت البراد علي النار... لفت انتباهي ذلك الطبق الصغير المصنوع من الألومنيوم به قطعة صغيرة من الجبن القديم يعلوه نصف رغيف.. حانت منه نظرة تجاه الطبق وأشار بيده قائلا هات الطبق وكل معي...امسك العم الشحات نصف الرغيف جعله قطعتين... أكلت لقمة ثم لقمة أخري... راحت أصابعه المرتجفة إلي الطبق ثم يعيدها إلي فمه ولما انتهي من المضغ بصعوبة رأيته ويقبل ظهر يده اليمني حامدا لله وشاكرا له نعمته توالت آيات سورة الكهف من مكبر الصوت المعلق أعلي مئذنة المسجد الكبير فرأيت السنوات تعود للوراء... إلي الماضي البعيد.. إلي زمن الطفولة حينما كانت ترسلني أمي إلي العم الشحات حاملا بين يدي دجاجة أو ديكا عقب نجاحي طيلة دراستي الابتدائية تراءت أمامي صورته حينما كان يقوم بتنظيف حصر المسجد من الأتربة التي علقت بها ثم يعود فيرصها متجاورة بعناية ورأيته يقوم بتنظيف دورات مياه المسجد ويرش الأرض بالماء الممزوج بماء الورد.. ورأيته يعتلي درجات السلم الخشبي حتي يصل إلي سطح المسجد ليؤذن لكل صلاة ثم يهبط ليؤم المصلين... ورأيته يطرق الأبواب بعصا الليمون التي لا تفارق يده يعلن من خلال طرقاته موعد تناول السحور في شهر رمضان..ورأيته يستقبل الناس مستبشرا وهم يدخلون المسجد لصلاة العيد...ورأيته يقوم بطلاء حوائط المقام باللون الأخضر ورأيته يقوم برش الماء في طرقات المقام بعد أن يشعل أعواد البخور الزكية الرائحة في جنبات المقام كما رأيته يقوم بعناية أشجار الفيكس المنزرعة حول المسجد والمقام...أشياء كثيرة... وأحداث أكثر تراءت أمامي الآن وفي كل شيء وفي كل حدث كنت ألمح العم الشحاتفتيا وقويا ونشطا قمت بصب الشاي في كوبين....أمسك بيده كوبا فرأيته يرتعش بين يديه وراح يرتشف منه رشفات صغيرة متلاحقة.. قرأت في عيني العم الشحاتآيات الرضا ولمحت السماحة ترتسم علي وجهه الذي مازال يتشبث بآخر خيوط الحياة محمد الحديدي الشرقية