إحساس بالذنب يحتل نفسي, يطبق علي روحي, أختنق منه ندما, يحترق الدمع مني وتجف منابعه آملا في طوق نجاة..! و هذا الإحساس هو نفسه ما استشعرته وأنا أقرأ حكاية ذكريات بطعم الموت والتي تشترك معي في العذابات نفسها ولعل ذلك ما دفعني لكي أنفض عن نفسي همي وأكتب لك حكايتي. قبل بضعة أعوام كنت أعيش حياة طبيعية, تخرجت حديثا في الجامعة وكانت تربطني بشاب قصة حب هي سر سعادتي حيث ارتبطنا عاطفيا من السنة الأولي لي في الكلية, كنا رفيقين في الدراسة والحياة توحد القلب منا وتواءمت أحلامنا, نطرق كل أبواب العمل ونحن طلبة كي نوفر المال الذي يهيئ لنا عش الزوجية, ولقد نجحنا في هذا إلي حد كبير تجاوز كل خيالاتنا فقد استطعنا شراء شقة صغيرة في أحد الأحياء الشعبية وعملنا علي فرشها وتشطيبها بما لا يكبد أحدا من أهالينا شيئا فقد اعتمدنا علي أنفسنا تماما لأن والده ووالدي موظفان بسيطان ليس لديهما وفر يساعدانا به..! كانت الحياة رغم مشقتها تبدو سعيدة حالمة تجري الأيام فيها خاطفة لم نشعر بالشقاء فيها حتي استقرت بنا أمواجها المتلاطمة علي شاطيء المستقبل, تخرجنا وتأهلنا لعمل يناسبنا واكتمل بيتنا ولم يبق غير الزفاف بمباركة الأهل والأحباب. في تلك الليلة كنت أستشعر السعادة دفئا يحتويني في حنان ورومانسية ونظرات رضا كانت تملأ عيون زوجي بما وصلنا إليه استطعنا النجاة من لجة اليأس وتشبثنا بطوق الأمل نجاة لنا وإرادة حتي تحولت خيالات السعادة واقعا أتلمسه بين يديه.. وكما كانت أيام الشقاء سريعة خاطفة كانت سعادتي أيضا سريعة لم أدر بالأيام تمر إلا وقد تحركت أحشائي جنينا تنبض الروح فيه بالأمل يأتي به إلي الدنيا فتتجسد السعادة فيه جسدا وروحا. حياتي كلها اختذلتها في حياة زوجي وصغيري تفرغت لهما لا يعنيني من أمور الدنيا غير سعادتهما أوفر لهما كل أسباب الراحة وظننت أني أقوم برسالتي في الدنيا علي أكمل وجه ولكنها الأقدار كانت تخفي لي سيناريو آخر تمتزج أحداثه بالألم والمرارة..! في صباح أحد الأيام لاحظت تغيرات علي جسم ابني الصغير لا يتجاوز الثالثة من عمره, كان دافئا ترتعش أوصاله يرتسم علي وجهه إعياء شديد, هرولت به علي الأطباء يشتعل في القلق خوفا ورعبا حتي علمت أنه يعاني خللا في جهاز المناعة ولم أفهم معني هذا المرض وخطورته حتي عندما أخبرني الطبيب أن نقص المناعة يتسبب في ضرر شديد لكل أعضاء الجسم, لم أستوعب الأمر أنه مرض يمكن علاجه والشفاء منه, كل ما سيطر علي هو أن ابني في خطر ولا علاج له, تملك مني اليأس فزعا, أصرخ ملئ ضمي بهستيريا تصل بي إلي الجنون, استطاع زوجي تهدئتي بصبره وإيمانه الراسخ ويقينه في رحمة الله وبدأنا ماراثون الفحوصات وجلسات العلاج المكثفة, وأصررت أن أقوم علي تمريض صغيري بنفسي, لا أنام الليل, أصله بالنهار لا تغفل عيني عنه, أعطيه علاجاته بانتظام دقيق حتي استشعرت فيه بعض التحسن ما جعلني أستريح بعض الشيء حال توتري وفزعي دون أن أنام حتي أصابني الجنون وبدأت أهذي, انتقص الإرهاق من تركيزي ما جعلني أعطي ابني مقدارا خاطئا من علاجه ما أوقع به في براثن غيبوبة لم يرجع منها..! بضعة أيام مضت عليه تحت الرعاية المركزة فارق صغيري بعدها الحياة واكتمل الجنون بي, لا أعي شيئا غير أني قتلت صغيري بيدي, حاولت الانتحار لحاقا به ولم أفلح,خضعت لعلاجات وجلسات نفسية طويلة كي أستعيد اتزاني ولكني لم أتخلص من يقيني أني قاتلة, أزهقت روح صغيري بيدي, وعبثا حاول زوجي أن يقنعني أن موت ابننا قدر محتوم وإرادة من الله, يملأ الدمع عيني كجذوة من نار تحرقني ندما وحسرة, كان هو مؤمنا صابرا كعادته يترفق بي قدر ما يستطيع, لم يتركني لحظة لنفسي وألمي ولم يترك بابا من أبواب الطب النفسي إلا طرقه طلبا للشفاء ورغم امتداد الوقت بي صريعة آلامي النفسية لم يمل مني وكنت أستند إليه طوال الوقت. خمس سنوات مضت بنا منذ أن فقدت فلذة كبدي وراحت روحي معه ولكني أستطيع التعايش مع الدنيا من أجل زوجي فهو لا ذنب له, أحاطني بحبه وحنانه حتي تجاوزت أزمتي ووجدت حتما علي أن أوفر له أسباب السعادة أن تقر عينه بطفل آخر يكون فيه العوض وما يثلج صدره ولكن ما حيلتي ولم يرزقني الله سبحانه وتعالي حتي أنني طلبت منه أن يتزوج من امرأة أخري تحقق له السعادة في الأبوة ولكنه أبي إلا أن يعيش معي ولو لم ينجب أبدا وبدأت مرحلة من البحث عن أمل علي أعتاب الأطباء لعلي أجد عندهم ما يساعدني علي الحمل والغريب أن كل الفحوصات الطبية والأطباء أجمعوا علي أنه ليس هناك مانع طبي للحمل ولم يتبق غير أمل واحد نصحنا به طبيب أمراض نساء هو أن أعرض نفسي علي طبيب أمراض نفسية وعصبية لعل المانع أن يكون نفسيا من أثر الأزمة العصيبة التي مررت بها بفقد ابني وإحساسي الدفين بالذنب أني تسببت في موته. و بالفعل ذهبت لمعالج نفسي أكد لي أن إحساسي بالذنب جعلني رافضة للحياة وكل أسبابها وخضعت لجلسات تأهيل متكررة لعل الأمل يتجدد ولست أدري هل تفتح لي السماء أبواب رحمة الله بأمل جديد؟ ك. ب. القاهرة ترفقي بنفسك يا ابنتي فلا يقنط من رحمة الله غير الآثمين وأحسبك بإذنه سبحانه وتعالي من الصابرين المؤمنين بمشيئة الرحمن وقدره وفي يقيني أن أزمتك الحقيقية تكمن في ذاتك الملتاعة وفي انتصارك عليها طوق نجاة مما أنت فيه, ولك في رفيق عمرك القدوة الحسنة فقد كان لك السند والزوج والحبيب, وأزمته تقارب أزمتك وقد تزيد فهو أب لطفل وحيد فقده ولكنه لم يفقد اليقين بالله وصدق المولي عز وجل عندما قال في محكم آياته ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك علي الله يسير لكيلا تأسوا علي ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور( الحديد:22-23). ولست أقلل من حجم المصاب الجلل ولكن الحياة لا تتوقف عند محنة واحدة طالما تدب في الروح حياة مصداقا لقول الحق عز وجل: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم))( التغابن-11). وقل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلي الله فليتوكل المؤمنون( التوبة-51). وقوله: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم.( يونس-107)