لابد أن تتوقف أمام كلمات الرئيس الألماني شتاينماير منذ أيام في أثناء الاحتفال بذكري انهيار حائط برلين السابعة والعشرين والتي نتج عنها توحيد شطري ألمانيا عام1989, لتدرك عمق الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد منذ عدة سنوات وانعكست ملامحها علي نتائج الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها الحزب المسيحي الاشتراكي بزعامة إنجيلا ميركل. جاءت كلمات شتاينماير لتؤكد أهمية الوحدة وانهيار سور فرق سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بين شطري ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. ولكنه أشار إلي ارتفاع جدران أخري وقال نصا:انها جدرانا من الاغتراب واليأس والغضب تجذرت لدي البعض بشكل لم يعد يسمح بنفاد الحجج. وأشار الرئيس الألماني إلي ما أوضحته الانتخابات الأخيرة من تصدعات كبيرة وصغيرة علي حد وصفه نتيجة صعود اليمين ودعا النواب الديمقراطيين إلي التعاون من أجل مكافحة العودة إلي النزعة القومية. و أضاف وفقا لتصريحات بثتها الدويتش فيلة: ألمانيا يوم24 سبتمبر بات واضحا أن جدرانا أخري نشأت, وإن كانت أقل وضوحا وبدون سياج شائك. لكنها جدران تقف في طريق المفهوم العام لكلمةنحن. مشيرا أن هذه الجدران نشأت بين المدينة والريف وعالم الإنترنت وخارجه والفقراء والأثرياء والمسنين والشبان- جدران يفهم الناس بعضهم البعض من خلفها بصعوبة. بالطبع لم تكن نتائج الإنتخابات الأخيرة في ألمانيا مرضية للرافضين لليمين المتطرف فيها. فعلي الرغم من فوز حزب انجيلا ميركل بأغلبية الأصوات بنسبة32.9%, إلا انها نتائج تشير إلي خسارتها لنسبة لا تقل عن8% فارقا عن الانتخابات الأخيرة في العام.2013 فيما حصل حزب البديل اليميني علي نسبة تصويت قدرت بنحو13% بشكل أشار لزيادة نسبة المؤيدين لليمين في المجتمع الألماني و استمرار تصاعد هذه النسبة و هو ما سبق للأمن الالماني من التحذير منه منذ عدة اشهر فيما اعتبره السياسيون الألمان مؤشر خطورة تعيد للأذهان تنامي هذا التيار قبل الحرب العالمية الثانية. الواضح أن أزمة اليمين وصعوده لا تقتصر علي المانيا ولا تؤرق السياسيين فيها وحسب, حيث أنها باتت ظاهرة عالمية توجت بفوز دونالد ترامب بالرئاسة في امريكا و هو ما صاحبه ارتفاع في وتيرة التصريحات الأمريكية المعبرة عن أفكار اليمين. ثم كانت الانتخابات الفرنسية التي وصل لجولتها النهائية زعيمة اليمين المتطرف ماري لوبان و إيمانويل ماكرون الرئيس الحالي الذي حظي بدعم ألماني في انتخابات الرئاسة خوفا من صعود لوبان الرافض للاتحاد الاوروبي و لوجود اللاجئين و المسلمين في بلدها. فألمانيا التي ينظر لها باعتبارها قاطرة الاقتصاد الاوروبي تخشي صعود هذا اليمين الداعي لإحياء القوميات علي حساب وحدة اوروبا المتكاملة في مجال الاقتصاد و السياسة. ولذا كان موقف المانيا الحاسم من الانفصال البريطاني عن الاتحاد الاوروبي عقب الاستفتاء الذي تم اجراؤه في منتصف العام2016 حينما دعت لاجتماع عاجل مع فرنسا وايطاليا لاعلان دعمهم للاتحاد الاوروبي الذي هو مستقبل أوروبا. فلا زال كابوس النازية ذات النزعة اليمينة المتطرفة حاضرا في الأذهان بما دفعته ألمانيا علي كافة المستويات نتيجة له بشكل بات يمثل وصمة عار بنظر الالمان. يذكر أن مسحا أجري منذ أيام في المانيا ونشرت نتائجه الدويتش فيله و اظهر أن نحو ثلثي الألمان ما زالوا يرون أن هناك انقسامات بين الولاياتالشرقية الشيوعية سابقا والغرب الألماني الديمقراطي و هو ما فسره المحللون للاستفتاء بأنه نوع من جدار برلين العالق في الذهن. وهو ما يعني أن محاولات الحكومة الألمانية علي مدار سبعة وعشرين عاما مضت لتعويض الولاياتالشرقية- التي تبعت الاحتلال الشيوعي- اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا لم يفلح في إزالة الرواسب بين شطري المانيا أو بين مختلف طوائف الألمان وبخاصة مع تزايد اعداد المهاجرين للدولة الالمانية والذين يبلغ تعدادهم نحو خمسة عشر مليون نسمة. القضية ليست قضية صعود صوت اليمين وحسب أو تراجع في الانتخابات وحسب أو تحذيرات أمنية تحذر من اليمين كما تحذر من الألمان العائدين من سوريا والعراق بعد انضمامهم لداعش. القضية في المانيا قضية تاريخ لا زالت أثاره عالقة بلونها الأسود علي جدران المباني في العديد من الولايات الألمانية تحذر من انقسامات تقودها نزعات متطرفة. فهل تنجح المانيا في وقف ارتفاع الجدران بين طوائف المجتمع؟