دائما ما يثور التساؤل الذي قد نعرف جميعنا إجابته ونتغافل عنها في أغلب الأحايين, وهو عن سبب عدم اكتمال مفردات أي عمل أو خدمة في مجتمعنا؟!. إذ لم يسلم الواحد منا من تدني معظم مستويات الخدمة التي تبدأ قوية أو من بعض المنتجات المفتقدة للمسة الأخيرة, و غيرها كثير من الأمثلة التي يستتبعها بالطبع نوع من الإحباط مضاعفة التكلفة زمنيا وماديا. وما من شك في أن قضية المعرفة إتاحة وإنتاجا و ما يرتبط بها من منظور علمي, تمثل حجر الزاوية في موضوع الإتقان, إذ ان القضية لا تقتصر فقط علي خروج العمل وفق مقتضيات إنتاجه بل يتعدي الأمر ذلك لديمومة الجودة واستمرارية الكفاءة. وهنا مكمن الخطر حيث تتواري ثقافة الإتقان أمام قلة المعرفة أو التعامي عنها, إلي الحد الذي طال صغائر الأشياء فما بالكم بكبرياتها. وتبدو القضية المطروحة في جوهرها نظرية الطابع و هو ما لم نقصده هنا, فلست حريصا علي الحديث عن المعرفة من حيث كونها نظرية أو رؤي فلسفية و لكنني أتحدث عن المعرفة القائمة علي مفردات العلم, التي تجعل الشخص حريصا علي استيعاب كل مفردات عمله وأساليب تطويرها وفق مقتضيات التجويد الدائم. وهنا تأتي الشمولية المعرفية المقصودة التي تخرج من شرنقة التخصص إلي عوالم سلوكية و ثقافية تنعكس بالإيجاب علي الأداء بعامة. ولو أمعنا النظر فيما ندرس من حضارات لوجدنا أن كلمة السر في بقائها عبر التاريخ و تحديها لعوادي الزمان إنما هي الإتقان القائم علي المعرفة. ومن ثم لن تكون الأهرامات مثلا بالنسبة لنا مجرد اثر نفخر به علي أرضنا, بل شاهد شاخص علي ثقافة قوامها المعرفة ومن ثم الإتقان. بيد أنه لاختزالنا القضية في منظور الأثر القديم دون تناول ما له من أثر مستدام علي حياتنا, فقد بات الاعتياد السطحي في التناول سمة من سمات التعامل مع دروس الماضي البادية للعيان. وما من شك في أن القضية إذا كانت ترتبط بالتربية سلوكا وتنشئة فإنها تقوم علي أسس رئيسية قوامها التخطيط والتنفيذ والمتابعة. وكل أساس من هذه الثلاثية ينتقص حال افتقاده من قيمة الإتقان فيها, لكونها معيارا متكاملا لما اصطلح عليه المجتمع الإنساني. ولعلها فيما نري و بغض النظر عن الأبعاد السياسية إنما تمثل منطلقات ظهور الأيزو وأخواتها في عالمنا المعاصر, مؤكدة كوامن الإجادة التي لا تترك مجالا للمصادفة. و لعل تغافلنا عن هذه الثلاثية قد أورثنا حالة من الضيق بالنقد البناء الذي هو عماد المتابعة والتطوير ومن ثم ديمومة التجويد, ليخلق محله قيما من المداهنة والنفاق و( الفهلوة) التي تجعل من العقليات ذات نزعة تبريرية تفتقد للموضوعية والمكاشفة ومن ثم الشفافية. هذه الآفة مردها إلي ضعف البنيان المعرفي وأثره علي ثقافة الإتقان التي قد تصل أحيانا إلي حالة تسلطية سلطوية تنسحب علي مؤسسات بأكملها, بحيث تجعل معادلات التعامل أحادية التوجه لتفضي في النهاية إلي مبدأ ما أريكم إلا ما أري. ومما لا شك فيه أن التوجه النبوي الكريم الذي جعل حب المولي للعمل مقترنا بإتقانه ليضع الكثيرين في مواجهة مع أنفسهم بين مظاهر( التأدين) ومضمون التدين, حيث البون جد شاسع شكلا ومضمونا. ليبقي الخيار لنا في حتمية تبني الإتقان معرفة وأداء, أملا في أن نشطب من حياتنا المثل التبريري الشهير الحلو ما يكملش. ( إشراقات السعدي131): إن ركوب الطائرة لا يعني قدرتك علي التحليق في السماء.