وحياتكم, وحياتكم قسما وفي لو أن روحي في يدي ووهبتها عمري بغير حياتكم لم أحلف لمبشري بقدومكم لم أنصف كلمات إن قرأتها تشيعت عواطفك بالعشق والحب والحنين, وعندما تسمعها في قصيد الشيخ ياسين التهامي تدرك علي الفور حضور سلطان العاشقين أبو حفص وأبو القاسم, عمر بن الفارض,(576 ه 632) الصوفي المصري الأول, ورأس شعراء الصوفية العرب كما وصفه الشيخ مصطفي عبد الرازق, ولقبه سلطان العاشقين, الذي ذخر ديوانه بأناشيد الحب الإلهي, وصار تراثا روحيا فلسفيا, والديوان هو من أرق الدواوين شعرا وأنفسها درا, وأسرعها للقلوب جرحا, وأكثرها علي الطول نوحا, إذ هو صار عن نفثة مصدور, وعاشق مهجور, وقلب بحر النوي مكسور كما قال ابن أبي حجلة.. وديوان ابن الفارض استوعب حياة الشاعر الروحية, وكثرت فيه الشروح والتفاسير خاصة قصيدته التائية الكبري والخمرية ومن شعره: وحياة أشواقي إليك ما استحسنت ليلي سواك وحرمة الصبر الجميل الجميل ولا صبوت إلي جميل ويقول في حب ربه: قلبي يحدثني بأنك متلقي مالي سوي روحي وباذل نفسه روحي فداك عرفت أم لم تعرف في حب من يهواه ليس بمسرف وكان ابن الفارض شاعرا رقيقا, صوفيا متحققا, حتي استوعب الحب ظاهرة وباطنه, واستغرق الجمال جوارحه وجوانحه, فلم يكن يحب الله في ذاته وفحسب, ولا يتغني جمال الذات الالهية المطلق فحسب, وانما يحب كل ما في الوجود ويقبل عليه كمشهد من المشاهد التي يتجلي فيها ذلك الجمال الإلهي المطلق.. وعبر ابن الفارض عن أشواقه ومواجيده في قصائد طوال وقصار, هي في ظاهرها أبيات من الشعر, مقصودا له وحده, وكل المحبين حبذا له يأتمرون بأمره, وتلاميذ يأخذون عنه, ويهتدون بهديه, ويحشر العاشقون تحت لوائه, كما يحشر المعشوقون تحت لواء محبوبه ويقول في ذلك: كل من في حماك يهواك لكن فيك معني حلال في عين عقلي ففي أهل الجمال حسنا وحسني يحشر العاشقون تحت لوائي أنا وحدي بكل من في حماكا وبه ناظري معني حلاكا فبهم فاقة إلي مفتاكا وجميع الملاح تحت لواكا فقد تمكن الحب من قلب ابن الفارض فلم ينفك عنه بحيث أصبح الحب مذهبا له, ودينا يعتنقه لو انحرف عنه لكان معني ذلك ارتد عن دينه ويقول: وعن مذهبي في الحب مالي مذهب وإن ملت عنه يوما فارقت ملتي ولم يصل لهذه المكانة من الحب إلا بعد رياضة ومجاهدة ومعاناة ومكابدة, فمرت نفسه بأطوار, وهي في كل طور تصفو شيئا فشيئا, وتسمو رويدا رويدا, حتي تهيأ لها من صفاء السريرة, وجلاء البصيرة ما جعلها أهلا لمشاهدة جمال الذات الإلهية, ومعانيه تجليات الحقيقة العلية. وقضية الحب الذي استوعب حياة ابن القارض, الذي يفسر به فلسفته, هي نفسها التي تجعل منه شاعر الحب الأول فقد جعل من الحب دينا ومذهبا يجمع فيه كل الأديان والمذاهب ويقول: مابين معترك الأحداق والمهج ودعت قبل الهوي روحي لما نظت لله أجفان عين ساهرة عذب بما شئت غير البعد عنك تجد وخذ بقية ما أبقيت من رفق أنا القتيل بلا إثم ولا حرج عيناي من حسن ذاك المنظر البهج شوقا إليك وقلب بالغرام شج أرو في محب بما يرضيك مبتهج لا خير في الحب إن أبقي علي المهج ومر حب سلطان العاشقين بعدة مراحل أو أطوار, فكان حبه في طوره الأول من نوع حب الهوي الذي تحدثت عنه رابعة العدوية, وفي طوره الثاني من نوع حب رابعة الذي عرفته بأنه الذي الله أهل له, أي حب الله لذاته, فهو يحب الله احتسابا له لا رجاء لثواب منه ولا خوفا من عقابه, وانتهي ابن الفارض في الطور الثالث والأخير لأن تنكشف له أسرار ذات المحبوب, وتري أنه خلص من التقلب في اطور الحب إلي حياة روحية خالصة قوامها التجرد عن نوازع الهوي ودوافع الحس, ومنازع النفس, وغايتها التعلق بالجمال المطلق الذي ليس حس الكائنات إلا معني من معانيه, ومجلي من مجاليه, ورأينا أن شعره لم يكن صادرا عن الجمال المطلق فحسب, بل كان صادرا أيضا عن شعور وعاطفة, مشيرا إلي وجد وذوق, مفلسفا معبرا عن حقائق الذات الإلهية ودقائق النفس الإنسانية.