يروي عن عالم المعتزلة أبويحيي مالك بن دينار(131 ه 748 م) أن الرعاة الذين يرعون الغنم في رءوس الجبال قد ظهرت لهم علامات أنبأت بأن الخلافة قد تولاها عبد صالح, وتساءلوا من هذا العبد الصالح الذي قام علي الناس؟ حتي علموا إنه عمر بن عبدالعزيز, وقالوا أنه إذا قام علي الناس خليفة عدل كفت الذئاب أذاها عن الغنم؟ ويروي موسي بن أعين فيقول: كنا نرعي الشاء بكرمان في خلافة عمر بن عبدالعزيز, فكانت الشاء والذئاب والوحوش ترعي في موضع واحد. فبينا نحن ذات ليلة, إذ عرض الذئب لشاة فقلنا: ما أري الرجل الصالح إلا قد مات؟ فنظروا فوجدوه قد مات في تلك الليلة. وقد يقول الناس الآن: من لنا بمثل عمر بن عبدالعزيز.. ان العصر قد تغير والناس مختلفون, فلا أمل ولا رجاء ولا فائدة من استلهام هذه الصفحات التاريخية المشرقة؟ ولهؤلاء نقول: عمر بن عبدالعزيز وغيره من أئمة العدل قد حققوا للناس عدلا بمقدار ما استجابوا لمصالح مجموع الأمة الطامحة إلي رد المظالم واستعادة الحقوق واقامة الحق والعدل بين الناس.. والذين وقفوا علي النقيض من عمر بن عبدالعزيز قد أصابوا أممهم بما أصابها من الجور والظلم بقدر ما استجابوا لمطامع القلة التي شاءت أن تستأثر بحقوق سداد الناس وجهودهم. وكما يقول د.محمد عمارة, فالذين يبصرون القانون العام والحقيقة الأساسية ويدركونهما بوعي يقظ, ثم يسلكون السبيل الأقوم لوضعهما في الممارسة والفعل والتطبيق, لن يكون عزيزا عليهم أن يحققوا لمجتمعاتهم من العدل ما حققه لمجتمعه عمر بن عبدالعزيز, بل وأكثر مما حققه عمر بن عبدالعزيز. عمر بن عبدالعزيز كان يضع نموذج عدل عمر بن الخطاب مثالا يستلهمه, ولم يكن يريد إعادة مجتمع عمر بن الخطاب وتجربته ثانية, لأن التطور قد تجاوز الكثير من واقعهما ووقائعهما.. كان يريد عدل عمر بن الخطاب لمجتمع عمر بن عبدالعزيز.. وكان هناك من يتحدث عن استحالة ذلك, لتغير الزمان وتغير الرجال؟! وللرد علي هؤلاء كما يقول د.عمارة: طلب عمر بن عبدالعزيز إلي أحد علماء عصره أن يكتب إليه بسيرة عمر بن الخطاب للاسترشاد, فكتب إليه بها, وختم كتابه بهذه الكلمات: إن عمر بن الخطاب كان في غير زمانك ومع غير رجالك, وانك ان عملت في زمانك ورجالك بمثل ما عمل به عمر بن الخطاب في زمانه ورجاله كنت مثل عمر بن الخطاب وأفضل. فللعدل قانون.. والمهم هو اكتشافه والوعي به.. والأهم هو السعي لتطبيقه واقامة حرصه وسلطانه.. وعند ذلك, وبالرغم من اختلاف الرجال والزمان, يتحقق العدل الذي استهدفه الأولون ويحلم به المعاصرون..!! عندما ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة كتب إلي الحسن البصري, يطلب منه أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل قوام كل مائل, وقصد كل جائر, وصلاح كل فاسد, وقوة كل ضغيف, ونصفة كل مظلوم, ومفزع كل ملهوف. والإمام العادل يا أمير المؤمنين, كالراعي الشفيق علي إبله, الرقيق بها الذي يرتاء لها أطيب المراعي, ويذود بها عن مراقع الهلكة, ويحميها من السباع, ويكنها من أذي الحر والقر. ويستمر في صفة الإمام العادل إلي أن يقول:.. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله عز وجل, كعبد ائتمنه سيده, واستحفظه ماله وعياله, فبدد المال وشرد العيال, فأفقر أهله وفرق ماله. واعلم يا أمير المؤمنين, ان الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش فكيف إذا أتاها من يليها؟! وان الله أنزل القصاص حياة لعباده, فكيف إذا قتلهم من يقتصي لهم؟!.. واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده, وقلة أشياعك عنده, وأنصارك عليه, فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر.. وفي رسالة أخري.. كتب الحسن البصري إلي عمر بن عبدالعزيز: من الحسن بن أبي الحسن إلي عمر بن عبدالعزيز أمير المؤمنين: أما بعد.. فكأنك بالدنيا لم تكن, وكأنك بالآخرة لم تزل. وكتب عمر بن عبدالعزيز إلي الحسن البصري: أجمع لي أمر الدنيا, وصف لي أمر الآخرة. فأجابه الحسن البصري: انما الدنيا حلم, والآخرة يقظة والموت متوسط, ونحن في اضغاث أحلام.. من حاسب نفسه ربح, ومن غفل عنها خسر, ومن نظر في العواقب نجا, ومن أطاع هواه ضل ومن حلم غنم, ومن خاف سلم, ومن أعتبر أبصر, ومن أبصر فهم, ومن فهم علم, ومن علم عمل. فإذا زللت فارجع, وإذا ندمت فأقلع, وإذا جهلت فاسأل, وإذا غضبت فأمسك وأعلم أن أفضل الأعمال ما أكرهت النفوس عليه, وأن فيما أمرك الله به شغلا, عما نهاك عنه.. والسلام!!