ذكر الله تعالي منزلة من منازل هذه الدار يتزود منها الأتقياء, ويتجرون فيها, وإليها دائما يترددون, الذكر قوت القلوب, الذي متي فارقها صارت الأجساد لها قبورا, وعمارة الديار التي إذا تعطلت عنه صارت دورا بورا, وهو السلاح الذي يقاتل به قطاع الطريق, والماء الذي يقطع به لهب الحريق. بالذكر تستدفع الآفات, وتستكشف الكربات, وتهون به المصائب والملمات, زين الله به ألسنة الذاكرين, كما زين بالنور أبصار الناظرين, فاللسان الغافل كالعين العمياء, والأذن الصماء, واليد الشلاء, والذاكر الله لا تدنيه مشاعر الرغبة والرهبة من غير الله, ولا تقلقه أعداد القلة والكثرة, وتستوي عنده الخلوة والجلوة, ولا تستخفه مآرب الحياة ودروبها, ذكر الله عز وجل باب مفتوح بين العبد وبين ربه, ما لم يغلقه العبد بغفلته. يقول الدكتور حمادة القناوي من علماء الأوقاف: حث الدين الحنيف علي أن يتصل الإنسان بربه, ليحيي ضميره وتزكو نفسه ويتطهر قلبه, ويستمد منه العون والتوفيق, ولأجل هذا جاء في محكم التنزيل, والسنة النبوية المطهرة ما يدعو إلي الإكثار من ذكر الله عز وجل علي كل حال, فقال عز وجل:( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا, وسبحوه بكرة وأصيلا), الأحزاب:41-42] وقال سبحانه:, والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما], الأحزاب:35] وقال جل شأنه:, واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون]( الأنفال:45) وقال تعالي:, فاذكروني أذكركم], البقرة:152]. وقال سبحانه:( ولذكر الله أكبر]( العنكبوت:45) إن الذنوب كبائرها وصغائرها لا يمكن أن يرتكبها بنو آدم إلا في حال الغفلة والنسيان لذكر الله عز وجل, لأن ذكر الله تعالي سبب للحياة الكاملة التي يتعذر معها أن يرمي صاحبها بنفسه في أتون الجحيم, أو غضب وسخط الرب العظيم, وعلي الضد من ذلك التارك للذكر, الناسي له, فهو ميت لا يبالي الشيطان أن يلقيه في أي مزبلة شاء, قال تعالي:( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين), الزخرف:36] وقال سبحانه:( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة]( طه:124]. قال ابن عباس رضي الله تعالي عنهما:, الشيطان جاثم علي قلب ابن آدم, فإذا سها وغفل وسوس, فإذا ذكر الله خنس] وكان رجل رديف النبي صلي الله عليه وسلم علي دابة, فعثرت الدابة بهما فقال الرجل: تعس الشيطان! فقال له النبي صلي الله عليه وسلم:( لا تقل تعس الشيطان, فإنه عند ذلك يتعاظم حتي يكون مثل البيت, ولكن قل: باسم الله, فإنه يصغر عند ذلك حتي يكون مثل الذباب) رواه أحمد وأبو داود وهو صحيح. ويضيف الدكتور حمادة الإكثار من ذكر الله براءة من النفاق, وفكاك من أسر الهوي وجسر يصل به العبد إلي مرضاة ربه وما أعده الله له من النعيم المقيم, بل هو سلاح مقدم علي أسلحة الحروب الحسية التي لا تكلم, فقد ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم في فتح القسطنطينية:( فإذا جاءوها, نزلوا فلم يقاتلوا بالسلاح, ولم يرموا بسهم, قالوا: لا إله إلا الله, والله أكبر فيسقط أحد جانبيها, ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر, فيسقط جانبها الآخر, ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلونها فيغنمون). وعن دور الذكر في شفاء الأسقام وكشف الكروب يقول الدكتور حمادة القناوي: لا تخش غما, ولا تشك هما, ولا يصبك قلق ما دام قرينك هو ذكر الله, يقول جل وعلا في الحديث القدسي:, أنا عند ظن عبدي بي, وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) رواه البخاري ومسلم. واشتكي علي وفاطمة رضي الله عنهما إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم ما تواجهه من الطحن والعمل المجهد, فسألته خادما, فقال صلي الله عليه وسلم:( ألا أدلكما علي ما هو خير لكما من خادم, إذا أويتما إلي فراشكما, فسبحا الله ثلاثا وثلاثين, واحمداه ثلاثا وثلاثين, وكبراه أربعا وثلاثين, فتلك مائة علي اللسان وألف في الميزان فقال علي رضي الله عنه: ما تركتها بعدما سمعتها من النبي صلي الله عليه وسلم, فقال له رجل: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين). وليلة صفين ليلة حرب ضروس, دارت بينه وبين خصومه, رضي الله تعالي عنهم أجمعين. لو كلف كل واحد منا نفسه أن يحرك جفنه, ليري يمنة ويسرة مشاهد متكررة من صرعي غفلة وقلة الذكر, أفلا ينظر إلي ظلمة البيوت الخاوية من ذكر الله تعالي, أو لا ينظر إلي المرضي والمنكسرين أوكلهم الله إلي أنفسهم لما نسوه, فلم يجبروا عظما كسره الله, وازدادوا مرضا إلي مرضهم, أولا ينظرون إلي المسحورين والمسحورات وقد تسللت إليهم أيدي السحر والمشعوذين, والدجاجلة الأفاكين, فانتشلوا منهم الهناء والصفاء, واقتلعوا أطناب الحياة الهادئة, فخر عليهم سقف السعادة من فوقهم. أولا يتفكر الواحد منكم في أولئك المبتلين بمس الجان ومردة الشياطين, يتوجعون ويتقلبون تقلب الأسير علي الرمضاء تتخبطهم الشياطين من المس فلا يقر لهم قرار, ولا يهدأ لهم بال؟ أو ما علموا أن لصباح كل يوم ذكرا وللمساء؟ بل حتي في مواقعة الزوج أهله, بل في دخول الخلاء- أعزكم الله- والخروج منه, بل في كل شيء, ذكر لنا منه الرسول صلي الله عليه وسلم أمرا, علمه من علمه وجهله من جهله. وفي حضارتنا المعاصرة كثر المثقفون, وشاعت المعارف الفكرية, ومع ذلك كله فإن اضطراب الأعصاب وانتشار الكآبة داء عام, فما الأمر وما السبب في ذلك؟ إنه خواء القلوب من ذكر الله, إنها لا تذكر الله كي تتعلق به وتركن إليه, بل كيف تذكر من تتجاهله, إن الحضارة الحديثة والحياة المادية الجافة, مقطوعة الصلة عن الله, إلا من رحم الله, والإنسان يقوي فهو ضعيف, ومهما يعلم فعلمه قاصر, وحاجته إلي ربه أشد من حاجته إلي الماء والهواء, وذكر الله في النوازل عزاء للمسلم ورجاء:( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب), الرعد:28]. ولو تنبه المسلمون لهذا, والتزموا الأوراد والأذكار لما تجرأ بعد ذلك ساحر, ولا احتار مسحور, ولا قلت بركة, ولاتكدر صفو, ولا تنغص هناء. ويقول الدكتور أحمد صبري من علماء الأوقاف إن ذكر الله يراد به تذكر الله سبحانه وتعالي وعدم نسيانه, تذكره من خلال التفكر في جزيل نعمه, وعظيم آلائه, تذكره من خلال شهود فضله علي العبد في السراء, تذكره من خلال شهود رحمة به في الضراء, تذكره من خلال الإيمان بالقضاء والقدر, وأنه لا يكون علي أرض الله إلا ما شاء الله. وذكر الله يراد به جريان اسمه علي لسان العبد, وعدم غفلة الألسنة عن أن تلهج بتكرار ذكره بأسمائه وصفاته, ذكره تعالي مع نسمات الصباح, ذكره مع الطعام والشراب, ذكره مع الدخول والخروج, ذكره في القيام والقعود, ذكره عند الصعود والنزول, ذكره تعالي علي كل حال في الصحة والمرض, في السعة والضيق, في العطاء والمنع, ذكر اسمه تعالي مع كل حركة وسكون. وذكر الله تعالي المراد به التمسك بالكتاب الذي فيه تفصيل الدين, ذكره تعالي بالتمسك بما في كتابه من أوامر ونواه, ذكره تعالي بامتثال ما يحويه كتابه من نصائح وتوجيهات, ذكره تعالي بالتخلق بما وصفه في كتابه من مكارم الأخلاق, ذكره تعالي بالاعتبار بما قصه علينا من قصص وأخبار, ذكره تعالي بترجمة القرآن الكريم ترجمة حية في واقع الحياة كما كان قدوتنا رسول الله صلي الله عليه وسلم( كان خلقه القرآن) وذكر الله تعالي يراد به الصلاة والدعاء والثناء علي الله تعالي, فالصلاة ذكر والدعاء ذكر, ومدح الله سبحانه وتعالي والثناء عليه ذكر. وذكر الله تعالي من أجل العبادات وأفضل القربات بل هو الحصن الحصين الذي يتحصن به المؤمن من ملمات الدنيا, ومصائبه كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم( وآمركم أن تذكروا الله تعالي, فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتي إذا أتي حصنا حصينا فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله). وذكر الله جلاء للهموم ومفتاح السعادة التي ينشدها لكل مخلوق بل لا تتحقق الحياة الحقيقية إلا بذكر الله وكل إنسان لا يذكر ربه ميت مهما تبد للناظرين أنه يتنفس فعن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت وذكر الله أفضل الأعمال علي الإطلاق قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلي يا رسول الله, قال: ذكر الله عز وجل. وكما أن ذكر الله تعالي حياة للقلوب فالغفلة عن ذكره تعالي من أعظم أسباب الشقاء في الدنيا والحسرة يوم القيامة قال تعالي( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمي) قال بعض المتصوفة: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه. وما أجمل أن يكون الذي يذكر ربه في معية الله تعالي ففي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول الله تعالي: أنا عند ظن عبدي بي, وأنا معه إذا ذكرني, فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم, وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا, وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا, وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة.