نشأة تقنيات المياه في العالم العربي بدأ استخدام تقنيات المياه في العالم العربي منذ وقت طويل, حيث شهدت تطورا من استخدام أنظمة التوزيع التقليدية القائمة علي القنوات أو الأفلاج, إلي وسائل أكثر حداثة للري وتحلية مياه البحر وإدارة الخزانات المائية. ولكن رغم ذلك تظل قضية المياه في الشرق الأوسط, مسألة حساسة, لا بل مسألة وجودية. بالفعل, أثارت مسألة المياه في المنطقة مواجهات سياسية ومخاوف من اندلاع الصراعات والتعرض للضغوطات الاقتصادية والتجارية. وهذا يؤكد أن هذه المسألة سوف تحتاج إلي تكريس جهود واسعة في التخطيط الاستراتيجي والتكتيكي للموارد المائية في المنطقة لضمان تمكن سكان المنطقة من الوصول إلي الأنهار والبحيرات والآبار الارتوازية التي يحتاجونها للبقاء. في هذا الإطار, تبرز اختلافات واضحة في طريقة تخطيطنا للموارد المائية في العالم العربي علي المدين القريب والبعيد. والسؤال البارز الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي إجراءات الضبط التي يجب اعتمادها وفي أي إطار زمني... وهل يجب أن تكون جزءا من مبادرة صادرة عن القطاع الخاص أم القطاع العام؟ وبشكل عام, من المتفق عليه أن تتضمن خطط الموارد المائية علي المدي القريب آليات أو إجراءات يتم اتخاذها وملامسة أثرها خلال مدة لا تتجاوز خمس سنوات. وقد تشمل العمليات المنفذة في هذا الإطار مستوي معينا من المراقبة والتوقعات الهيدرولوجية, وهو العلم الذي يركز علي خصائص المياه وحركتها نسبة إلي الأرض. من النقاوة إلي التعكر تتضمن الأعمال الفورية الرامية إلي إدارة الموارد المائية علي المدي القريب دراسات الطقس ودراسات التغير المناخي واستخدام المعلومات الهيدرومناخية, مثل حرارة المياه ودرجة الحموضة والكثافة ومستوي التعكر( تكدر أو وجود شوائب داخل الجسم المائي). أما التخطيط الأكثر إلحاحا, أو بتعبير آخر إدارة الموارد المائية علي المدي القصير جدا, فهو يضم الإجراءات التي تتخذها الحكومة أو غيرها من هيئات القطاع العام وتهدف للتواصل مع السكان حول ترشيد استخدام المياه. فحين يطلب من السكان ترشيد استخدام المياه في أوقات الجفاف, غالبا ما تكون النصائح الموجهة إليهم بسيطة إلي حد ما, مثل أغلق صنبور المياه أثناء تنظيف الأسنان أو ركب جهازا لحصر تدفق المياه في الدش أو أصلح صنابير المياه التي تسرب الماء وغير ذلك... وعلي الرغم من أهمية هذه المقترحات التي تطبق في الحالات المثالية, فإن تركيب جهاز لحصر تدفق المياه في الدش, ليس من أولويات السكان في بعض المناطق الأكثر فقرا في مصر أو المغرب علي سبيل المثال, فالمتطلبات الملحة للبقاء علي قيد الحياة وتأمين متطلبات العائلة تأتي غالبا قبل أي اعتبار بيئي بالنسبة لهم. معالجة مشاكل المياه من المصدر من هذا المنطلق, اتخذت الحكومات والمؤسسات البحثية خطوات بعيدة المدي أكثر فعالية, مباشرة من المصدر. ففي نهاية فترة الخمسينيات من القرن الماضي, شيد سد نهر الليطاني الذي يعتبر أكبر بحيرة اصطناعية في لبنان, وتلاه بناء سد أسوان العالي في مصر في الستينيات, مع أن الهدف منه كان التحكم بنمط تدفق النيل أكثر من تأمين مصادر جديدة للمياه. وفيما يعتبر سد حتا في الإمارات العربية المتحدة صغيرا مقارنة بالسدود الأخري, فقد شهدت إمارة الشارقة أنشطة تطويرية ضخمة في سد الرفيصة, ما يجسد نظرية الذيل الطويل( أي تحقيق المنفعة بعيدة المدي) في إدارة الموارد المائية. ولكن إلي حين معالجة الاتجاهات علي المدي البعيد, فإن تحدي الطبيعة يظل أمرا بالغ الصعوبة. فمثلا, البحر الميت الذي ينخفض420 مترا عن سطح البحر, بات يسجل انخفاضا إضافيا نتيجة الانحسار الطبيعي للمياه بفعل الحفر الانهدامية المليئة بالأملاح. كذلك, بدأت الآبار الارتوازية الضرورية للحياة في الإمارات بالانحسار, إلي درجة أن العلماء حذروا من نفاد سطح المياه الجوفية بالكامل بحلول العام.2030 مشكلة شرق أوسطية وعالمية لهذه المشكلة امتدادات أعمق وأوسع. إذ تشير بعض التقارير الصادرة عن الأكاديمية الوطنية للعلوم إلي أن الجفاف الذي ضرب سوريا بين عامي2007 و2010 كان له دور بارز في تأجيج النزاع في البلاد. وبعيدا عن النطاق القطري, يستورد الشرق الأوسط كميات كبيرة من الغذاء من مناطق أخري في العالم, ولاسيما من منطقة وسط غرب الولاياتالمتحدة. لذلك فإن أصاب الجفاف منطقة واحدة في العالم, فقد يؤثر ذلك بشكل كبير علي أسعار الغذاء في العالم العربي ويكون له نتائج غير متوقعة. فكيف نعالج مسألة التخطيط للموارد المائية؟ ومن هي الجهة التي يجب أن تتولي ذلك؟ من المعروف أن الإمارات درست مدي جدوي إنشاء جبل من صنع الإنسان لتحفيز تساقط الأمطار في المناطق الصحراوية. فالجبال تعترض الحركة العامة للهواء وتجبره علي الارتفاع ما يؤدي إلي تكون السحب. وحين يحصل ذلك, يمكن تلقيح السحابة, أي إخضاعها إلي عملية تعديل مناخية تزيد كمية الأمطار التي تنتجها. إلا أن نتائج مثل هذه العملية لا تزال غير واضحة المعالم. وبشكل عام, تركز المؤسسات البحثية العاملة في مجال المياه, علي بحوث غير مؤكدة النجاح( مثل تلقيح السحاب) بدلا من اعتماد مقاربة ذات تطبيق مباشر لحل المشاكل. وفي هذا السياق, تقف الجامعات ومراكز الأبحاث خلف هذه الأفكار الجديدة والمبتكرة, فيما تعني البلديات بالأعمال اليومية المتعلقة بتأمين المياه وإصلاح التسريبات والفواتير وغيرها. ويمكن الاطلاع علي العديد من دراسات الحالات التي تلقي الضوء علي الجدل الدائر بين القطاع الخاص والعام. وتشكل فرنسا مثالا جيدا في هذا الشأن, إذ تنشط الشركات الخاصة العاملة في مجال المياه في البلاد منذ القرن التاسع عشر. وقد أفاد المنتدي العالمي للمياه, أنه في فرنسا مثلا, تلجأ البلديات الكبري إلي القطاع الخاص للتعاون في مشاريع المياه, في حين تفضل البلديات في المناطق الريفية إدارة خدمات المياه بنفسها. في أي منطقة في العالم, تستفيد الهيئة العامة المعنية بإدارة المياه من وفورات حجم المياه بشكل أكبر, ولكن في المقابل تكون المؤسسات الخاصة قادرة علي تقديم خبرات متخصصة في الظروف الصعبة. كذلك, تصل الهيئات العامة إلي التمويل الناجم عن استثمارات رأس المال الجديدة بشكل أبطأ مقارنة بمؤسسات المياه الخاصة. ولكن هل تكرس الشركات الخاصة ما يكفي من الاهتمام لنوعية مياه الشرب في حين لا تشكل الصحة العامة أي جزء من تفويضها التشغيلي الأساسي؟ وانطلاقا مما سبق, لعل الشراكة بين القطاعين العام والخاص هي المنهجية الأفضل في إدارة الموارد المائية؟ ولكن ذلك ما زال في رحم التكهنات. العامل البشري إن وضعنا جانبا المقترحات حول المؤسسات الاقتصادية ومشاريع التطوير التكنولوجية المشتركة بين القطاعين العام والخاص, فإن خطط الموارد المائية علي المدي الطويل في الشرق الأوسط ستتمحور دائما حول السياسة والسكان والسلام. وفي هذا الإطار, سلط المدير التنفيذي لمبادرةحوض النيل في كينيا جون روا نياورا الضوء في كلمة ألقاها في عمان في مارس2015 علي اتفاقية الأممالمتحدة م1997 ن قانون استخدام اري ا الدولية, والتيتنص عليإمكان الاستخدام المتساوي والمعقول للموارد المائية المشتركة واستخدامها في أراضيها شرط ألا يتسبب ذلك بضرر سلبي كبير علي أي من دول الحوض. ودول الحوض هي الأراضي الموجودة علي مستوي أقل انخفاضا من جيرانها بالنسبة لإمدادات المياه, من الناحية الجغرافية. ويطبق حكم الأممالمتحدة هذا حتي في أوقات الحرب, والنزاعات والاضطرابات السياسية. دبلوماسية المياه للمستقبل إن مستقبل المياه في الشرق الأوسط يتعلق بالتخطيط, والناس, والسياسات في حال الرغبة بعدم الوصول إلي وضع انعدام الأمن المائي, أي حين لا نعد نعرف من أين نؤمن كل قطرةمياه نحتاجها. وكما ورد في دراسة انعدام الأمن المائي في منطقة الشرق الأوسط التي أجراها مركز الأبحاث استراتيجيك فورسايت غروب, فإن انعدام الأمن المائي يتعلق بعدم القدرة علي مواجهة الأزمات الناشئة عن الديناميكية المائية.ويشمل ذلك مدي توفر وإمكان الحصول علي المياه, خصوصا في أوقات الكوارث, سواء كانت طبيعية أو التي يتسبب بها الإنسان. كما أن الجفاف المستمر, والصراعات العنيفة, والاستخدام غير المستدام للمياه الجوفيةوحتي اختلال توازن القوي بين الجنسين... يساهم في انعدام الأمن المائي. ولعل الأهم في الشرق الأوسط اليوم, هو أن نقص المياه يشرد الناس وهذا هو القانون الأساسي للفيزياء البشرية الذي يجب تذكره. ومهما كانت الجهة التيستكلف بتولي مسئولية إدارة إمدادات المياه في المستقبل, فهي ستحتاج لسلطة القطاع العام, وحاجة القطاع الخاص الاقتصادية للإنتاج, وحياد الأممالمتحدة, والتحفيز الديني لتقديم حاجات الإنسان علي أي مكسب سياسي أو مالي. ومما لا شك فيه أن ذلك يضم حجما كبيرا من المهارات, التي لا يمكن تجاهل أي منها, لذا من المهم تحقيق التوازن فيما بينها. متخصص في شئون تطوير البرمجيات وإدارة المشاريع والتكنولوجيا