رسمت الملوحة والتشققات علي جدران المقهي لوحات وخرائط وتضاريس بلا معالم أو عنوان. المقاعد والطاولات قديمة غير لامعة.. لكنها نظيفة.. صورة صاحب المقهي تتصدر الواجهة طاردة لا جاذبة من تكشيرة وعبوس صاحبها. المقهي قطعة من الحياة أشبه بقطار طويل يتأهب زحمة وحشدا في محطة القطار.. مودعون وجلبة.. داخل هذه الفوضي قصص ومآس لأشخاص أقبلوا علي الحياة بخطي متماسلة.. جميعهم تفرقوا في محطات الوصول. ذلك الرجل الخمسيني اختارته طاولة في ركن بعيد عن جلبة المقهي وصخب فيشات الطاولة والنرد والدومينو.. كما اختار الكتابة.. اكثر النشاطات انعزالية في العالم... يري أن المشكلة الحقيقية التي تواجه انسان القرن الحادي والعشرين.. أنه لايعرف متي يبدأ ولا متي يتوقف... اختار الشعر أو هو الذي اختاره.. يسبح في فضاءات لا تنتهي.. يحمل في قلبه ألما مثل طائر أعياه الترحال.. يقاوم الريح والاعصار بضراوة خشية من النهايات البائسة والموت غريبا منسيا. -سأله يوما أحد الأصدقاء: عن سبب بكائه..؟ فأجابهم بقصيدة محمود درويش: أنا لا أبكي, كل مافي الأمر, أن غبار السنين, قد دخلت عيني. كان يعشق البحر قبل أن يصبح من رواد المقهي الدائمين.. يشكو إليه غياب الأحباب... يرقب أمواجه وهي تتدافع بقوة حتي تصطدم بالشاطئ في إيقاع متواتر عنيف يتشابه مع إيقاع مشاعره داخل صدره التي تضج.. بالصخب والعنف. يعود من البحر بشيء من السكون أشبه بالدمع المعلق في محجر العيون لايفيض ولايذهب.. يحتسي فنجانا من القهوة أثناء غرقه في حبر الكلمات.. يمضغ أحزانه ويلوك تعاسته في صمت مدهش. - قال عنه البعض من بين ثرثرات المقهي: أنه خرج معاشا مبكرا.. وأنه لم يتزوج لأنه صدم في التي أحبها.. لا أحد يعرف حقيقة الغريب الذي يجيء ويذهب وحيدا.. قصائده رغم الوجع.. تقطر عذوبة ونقاء.. لايمكنك الدخول اليها قبل خلع حذائك وطرق الباب ليؤذن لك بالدخول. لابد أيضا اذا سبحت في أشعاره.. أن تكون صافي الوجدان هامس الصوت. الصباح لم يعد دافئا كعادته.. فقد جاء الخريف بلسعات برد متمهلة.. بعد أن تناثرت حزم الضوء التي بدأت بالانسحاب عن طاولته. لم ينتفض من البرد كالآخرين الذين ارتدوا معاطف الشتاء.. لأن الصقيع بداخله.. لديه شوق لرؤية حبيبته التي لم تغب عنه يوما واحدا. مزق الشاعر شهادات التقدير التي حصل عليها في منتديات الشعر. غادر الشاعر المقهي بعد أن كتب في ورقة مزقت لحقا بشهادات التقدير. - انتظرتك سنوات طوالا أن تعودي ولم تعودي.. بعد أن ماتت أغنياتي.. وانكسر عودي... لاتطرقي الباب كل هذا الطرق.. الباب موصد. وأنا لم أعد هنا.. أنا حيث الغياب.. كل الابواب موصدة.. حتي ثقوب الذاكرة وثنايا الأحلام المعطوبة.. ودفاتر شعري وأوراقي باتت في مرمي العاصفة. ظلت طاولة الشاعر التي اختارته خالية منه لسنوات.. لا أحد يعرف أين ذهب..؟- بعضهم قال: هاجر والبعض قال: مات شاح المقهي والنادل والكراسي والطاولات.. وهطل المطر الذي غسل البيوت والشوارع.. والتي فرحت به نبتة ذابلة. والأرض المتشققة العطشي.