الجدل الدائر الآن في مختلف الدوائر السياسية والثقافية حول التعديلات الدستورية التي تعرض علي الاستفتاء اليوم, دليل علي إحياء السياسة في مصر بعد موت طويل! كانت للثورة انجازات في العديد من الميادين, ولعل أهم هذه الانجازات قاطبة هي عودة السطلة للشعب تمثل هذه الظاهرة المؤسفة والتي شاعت أخيرا نوعا من انواع التنطع الفكري والذي يمارسه عدد من الادعياء نعم جفت مياه السياسة بتأثير القهر السلطوي السياسي الذي امتد عقودا طويلة من السنين. لقد ادي هذا القهر السياسي والذي تمثل في انفراد الحزب الوطني الحاكم بالسلطة, وتهميشه للمعارضة, الي انفضاض الجماهير عن الاهتمام بالسياسة, ولذلك برزت ظاهرة اللامبالاة السياسية التي عبرت عن نفسها في عدم انضمام الناس للاحزاب السياسية, ومقاطتعهم الانتخابات سواء كانت برلمانية او رئاسية. وكان ذلك شهادة منهم علي عبثية العملية السياسية التي تم احتكارها لصالح حفنة من السياسيين المحترفين واصحاب المصالح واغلبهم مارس الفساد علي اعلي مستوي, وشارك في نهب اراضي الدولة, والتربح من المال العام. وقد استطاعت ثورة25 يناير ان تطيح بالنظام السلطوي الذي جثم علي صدور الشعب ثلاثة عقود كاملة بضربة واحدة. وكانت للثورة انجازات في العديد من الميادين, ولعل اهم هذه الانجازات قاطبة هي عودة السطلة للشعب. لاول مرة منذ عقود طويلة تستند السلطة السياسية, سواء في ذلك المجلس الاعلي للقوات المسلحة, او الوزارة التي يرأسها الدكتور عصام شرف الي الشعب, لانها قررت بصريح العبارة انها تعبر عن مصالحه التي عبر عنها في الثورة. بل ابعد من ذلك اصبحت السلطة السياسية تستمع باهتمام كبير الي عشرات المقترحات والاراء التي تصدر من شباب الثورة, اومن الاحزاب السياسية, اومن المثقفين المستقلين, وتأخذ بدون تردد ماتراه صالحا للتطبيق. وقام المجلس الاعلي للقوات المسلحة بناء علي طلب الشعب بحل مجلسي الشعب والشوري اللذين تشكلا في الانتخابات الاخيرة بالتزوير الفاضح, كما قرر تشكيل لجنتين: الاولي, لتقصي الحقائق حول الاعتداءات الاجرامية التي وقعت من قبل اهل السلطة المخلوعة ضد شباب ثورة25 يناير في ميدان التحرير, والثانية خاصة بالتعديلات الدستورية والتي يدور حولها جدل محتدم بين كل التيارات السياسية بين مؤيد بشدة ورافض بإطلاق! وقد شهدت في حياتي مشهدا مماثلا عقب قيام ثورة يوليو.1952 كنت قد التحقت بالسنة الاولي بكلية الحقوق بجامعة الاسكندرية عقب الثورة, وكان يدرس لنا مادة القانون الدستوري استاذ عظيم هو الدكتور سعد عصفور يرحمه الله كان فقيها متميزا وشخصية لها هيبة, وكان يمثل التيار الديمقراطي الاصيل الذي لايقبل لاي سبب ان يتم الاعتداء علي الدستور. ولذلك وقف ضد رغبة قادة ثورة يوليو من الضباط الاحرار لالغاء دستور.1923 وكان يقود اجتماعات في الكلية يحضرها الاساتذة والطلبة دفاعا عن الدستور, ورفضا لالغائه او تعطيله باسم الشرعية الثورية, لانه من وجهة نظره ليس هناك سوي الرشعية الدستورية. كان سعد عصفور ثائرا بطبيعته ودفع ثمن رفضه المساس بالدستور, وفصل من الجامعة هو وعشرات من زملائه, ولم يعد الي كليته في حقوق الاسكندرية الا في عهد الرئيس السادات وكان اخر استاذ من المفصولين الذين عادوا مرة اخري لممارسة مهمتهم الجليلة, والتي تتمثل في تخريج قانونيين يؤمنون بالدستور وبمبدأ سيادة القانون وكان يقابلسعد عصفور استاذ عظيم اخر هو الدكتور عبدالحميد متولي والذي عاش حياة طويلة ممتدة حافلة بالعطاء العلمي, وكان يمثل التيار المحافظ الذي تجنب الصدام مع الثورة. واذكر انه علق علي فصل زميله الاصغر سنا الدكتور سعد عصفور قائلا لقد نصحته الايقاوم ارادة الضباط الاحرار في اسقاط دستور1923, ولكنه لم يستمع للنصيحة! كنا متأثرين الي حد كبير بأستاذية سعد عصفور, وان كنا نخالفه في الرأي بالنسبة للثورة. كنا مع الثورة ولم نعارض باسم الشرعية الثورية اسقاط دستور1923 والذي في ظله ساد الفساد السياسي في سياق عملية الممارسة الديمقراطية, حين قبلت احزاب الاقلية السياسية التي كانت ترفع شعار الليبرالية اقصاء حزب الوفد من الحكم والذي كان حزب الاغلبية, نتيجة تآمر القصر والانجليز. واذكر ونحن طلاب في السنة الاولي بكلية الحقوق ان سأل احد الطلاب سؤالا للدكتور سعد عصفور فأجابه بكل بساطة انه لايعرف الاجابة علي السؤال. ولكنه وعده بأن يتوجه الي مكتبه في الكلية لبحث الموضوع وسيرد عليه في الاسبوع التالي. وفي الاسبوع التالي افتتح الدكتور سعد عصفور محاضرته قائلا مخاطبا الطالب, لقد بحثت الموضوع واكتشفت ان المشكلة التي سألت عنها لها حلان لاحل واحد. الحل الاول, حجته كذا وكذا, والحل الثاني, حجته كذا وكذا, وانا ارجح الحل الاول! كان هذا هو الدرس القيم الذي اعطاه لنا سعد عصفور ونحن مازلنا في اولي خطوات السلم. وتمثل هذا الد رس اولا, في اهمية التحلي بفضيلة التواضع بحيث انه لا ينقص من قدر الاستاذ ان يعترف بأنه لايعرف الاجابة علي السؤال الذي وجه اليه. وتمثل الدرس ثانيا, في انه يمكن الوصول الي حلول للمشكلات لو اطلع الانسان علي المراجع الاساسية, وثالثا, ان الحقيقة نسبيةوليست مطلقة! بمعني انه ليس هناك حل يمثل الصواب المطلق وحل آخر يمثل الخطأ المطلق! استحضرت هذه الذكريات العزيزة علي نفسي, وانا اتابع الجدل المحتدم حول التعديلات الدستورية, واكتشفت ظواهر جديرة بالتحليل. الظاهرة الاولي تزايد عدد المتجادلين حول الدستور وكأنهم فقهاء في القانون الدستوري! وتري بعضهم في الصحف او في الفضائيات يصوغون فتاوي دستورية, مع انهم لا يعرفون الف باء في القانون! وتمثل هذه الظاهرة المؤسفة والتي شاعت أخيرا نوعا من انواع التنطع الفكري والذي يمارسه عدد من الادعياء الذين قفزوا فوق ثورة25 يناير, ويريدون كذبا ان يدعوا انهم المنظرون لها او الموحون بها! اما البعض الاخر فلا يتورع عن القطع بأن من يقول نعم علي الاستفتاء يخطئ خطأ مطلقا, او ان من يقول لا يكون قد ارتكب جريمة في حق الوطن! وهذا اسلوب في النقاش يتعارض تعارضا كاملا مع قواعد الحوار الديمقراطي. ذلك انه لايملك اي طرف من الاطراف الحقيقة المطلقة! ولذلك ينبغي ان يكون الحوار مؤيدا بحجج مقنعة لااكثر ولااقل. وعلينا جميعا سواء كنا من الموافقين او من المعارضين التعديلات الدستورية, ان نقبل نتيجة الاستفتاء الذي سيتم في اجواء شفافة بعد ان انتهي عهد التزوير الفاضح لارادة الشعب. واذا نظرنا الي حجج المؤيدين للتعديلات الدستورية, نراها تركز علي ان التعديلات في ذاتها حققت للتطور الديمقراطي مكاسب كبيرة, وخصوصا في مجال تعديل المادة76 والتي فتحت الباب واسعا وعريضا امام الترشح لمنصب رئيس الجمهورية بغير شروط تعجيزية كما كان الحال في الماضي, بالاضافة الي تحديد حد اقصي لمدة حكم رئيس الجمهورية, وقصرها علي مدتين كل منها اربع سنوات. بالاضافة الي ان الاجابة بنعم في نظر المؤيدين ستؤدي الي استقرار افضل. اما المعارضون فيذهبون الي ان التعديلات لم تنفذ في اطار حوار وطني, لانه لم تكن هناك فرصة كافية لمناقشتها بعد اقرارها من قبل المجلس الاعلي للقوات المسلحة, بالاضافة الي انها لاتلبي طموح الشعب. والرافضون للتعديلات الدستورية كانوا يطمحون الي الغاء كامل للدستور وتشكيل جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد. وذهب بعض الادعياء من بينهم الي ان وضع دستور جديد مسألة في غاية السهولة وكأنها عملية يمكن ان تتم في اسبوعين او ثلاثة! بل ان بعضهم ادعي ان بعض اساتذة القانون الدستوري لديهم بالفعل مشروعات جاهزة لدستور جديد, وكأن الدساتير معروضة بالفعل فيسوبر مار كت دستوري وليس علي الشعب الا ان يختار واحدا منها! ولايعرف هؤلاء ان وضع دستور جديد يحتاج الي استقرار سياسي, وظروف مواتية لاقامة اوسع حوار فكري ديمقراطي حول توجهات الدستور الجديد. لان وضع دستور جديديعني بكل بساطة صراعا فكريا ايجابيا بين اصحاب التوجهات الايديولو جية المتنافسة, ونعني الليبراليين والاشتراكيين والاسلاميين, بالاضافة الياهمية الانطلاق من رؤية استراتيجية لمصر تنظر للمستقبل ولاتتوقف لدي الماضي. فلنر نتيجة الاستفتاء ولنعرف كيف صوت الشعب المصري في مجال التعديلات الدستورية!