بدأب ومهارة وصبر تلملم.. ليلي جراغي منمنمات اللوحة لكي تلقي نظرة فاحصة علي الصورة الكلية ثم في نظرة أعمق تعمل علي أن تجلو الصدأ الذي يغلف سطحها الخارجي من طول مدة التخزين وبخبرة, وعلم وفهم الطبيبة النفسية وهي كذلك بالفعل تغوص في الشرايين والشعيرات جريا وراء الجينات الأصيلة والمتحولة, والمموهة لتخرج لنا في النهاية بتلك الرواية الدسمة الممتلئة صدقا وحياة.. الصدأ. هي د. ليلي جراغي طبيبة نفسية هولندية الجنسية عراقية المولد.. من أصول كردية.. تبدو في أواسط العمر.. حرة.. متحررة, لاتخضع لأعراف أو تقاليد أو تنحاز لقومية أو عشيرة, وهذا ما يعطيها موضوعية ومصداقية الحكم علي الشخوص والأحداث, من خلال أسرة عراقية مهاجرة أصلا إلي هولندا, حيث تتشعب صلات الزواج والنسب والحب وما يشبه الحب.. والصراعات الخفية والظاهرة.. تدور أحداث الرواية التي لاتعتمد علي أحداث درامية كبري بقدر ما تعتمد علي التحليل..( وهذا ما نحتاجه اليوم عمليا للوصول إلي أعماق تلك الشخصية العربية التي تتقاتل ويقتل بعضها البعض دون هدف واضح كأنما تمارس لعبة اللذة والعذاب معا) تماما كما كانت تمارسه نهال مع زوجها الذي ظلت تائهة في تلافيفه بين منتهي الحب ومنتهي الضيق.. أو بمعني أدق بين الرغبة والنفور.. بين الحاجة الشديدة إليه والرغبة في التمرد والخلاص.. هذا الخلاص الذي قررته أخيرا, وفي ضربة واحدة حين امتلكت ارادتها.. يؤازرها الأب.. رب الأسرة المخمور دائما.. السلبي.. لكنه يفيق للحظات كأنما هي لحظات اعتراف ما قبل الموت حين يصيح في زوجته دعيها تحلم.. حلم التحرر يانرجس.. حلم التحرر من الخوف.. من العجز.. من القهر.. من أي شيء قد يسرق منها آمالها.. دعوها تجرب.. لاتقفوا كحجر عثرة في طريق أحلامها كأنما هذا الأب الذي غيبته الخمر طويلا يتحدث عن الأمة العربية كلها لا عن ابنته فقط. مايميز الكاتبة الحرة ليلي جراغي هو قدرتها الفائقة علي التحليل. علي الغوص إلي ما تحت التربة الظاهرة بحثا عن الجذور غير الهوائية.. حتي لتكاد تعمل خريطة كاملة لكل شخصية بدءا من مرحلة الطفولة والتي تهتم بها الكاتبة جدا نظرا لقوة تأثيرها كما يقول علم النفس في حياة الفرد كلها فيما بعد وطوال مسيرة حياته حتي لتكاد الشخصيات كلها أن تكون معوقة بالمعني النفسي. والحقيقة أن الشخصية العربية شديدة التعقيد والتناقض, وقد لخصتها الكاتبة في شخصية الابن جمال الذي عبدالدين ونسي الله.. عبدالظاهر ونسي الجوهر اهتم بالزي الخارجي الرسمي.. ونسي أن يستحم. الإبداع يرتبط أساسا بمدي الحرية داخل العقل.. وفارق كبير بين أن تتجول في عقل يتسع لكثير من الحدائق والميادين. وبين أن تحصر سيرك بين ممرات السجون والزنازين الضيقة المحكمة الإغلاق. تحيا الكاتبة العميقة د. ليلي جراغي في هولندا مستفيدة من الحرية هناك, لكن عينها علي الجسد العربي الممدد أمامها في غرفة العمليات المتخيلة.. والواقعية.