كم كان ذا معني ومغزي, رد الفعل العنيف لرئيس الوزراء الاسرائيلي( نتانياهو) علي قرار منظمة( اليونسكو) والذي طالبت اسرائيل فيه بإخراج الحرم الابراهيمي في الخليل ومسجد( بلال) في بيت لحم, من قائمة مواقع التراث القومي اليهود ا لمزعوم, واعتبرتهما موقعين مقدسين إسلاميين.واعتبر نتانياهو أن ذلك يمثل محاولة لقطع العلاقة بين شعب اسرائيل وتراثه( المزعوم) وتخوف نتانياهو هذا في محله, أقصد أنه يتفق مع ما آلت اليه الأمور بالنسبة إلي الصراع الدائر علي جبهة علم الآثار الفلسطيني, أو دحض الحق التاريخي المزعوم لليهود في فلسطين. إن خطورة هذا القرار, تكمن فيما اذا أخذ مرتبطا بالجهود المسعورة التي بذلت لإثبات مرويات توراتية بشأن اسرائيل القديمة, وهي جهود قديمة جدا, تعود بتاريخها إلي الزمن الذي غدا فيه التنقيب عن الآثار, بمثابة هوس أصاب الحجاج والرحالة الأوروبيين من المسيحيين واليهود, منذ القرون المبكرة لنشأة المسيحية, وقد تطور إلي هوس مرضي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وهي الفترة التي شهدت تبلور القوميات في أوروبا, وعلي خلفية التراث المشترك بين الغرب المسيحي وبين اليهود. أصبح التاريخ الفلسطيني خلال هذين القرنين, أحد التواريخ المستبعدة من جراء التسلط الذي كان يمارسه المتخصصون في الدراسات التورانية والمؤرخون وعلماء الآثار علي تاريخ فلسطين والشرق القديم, ونستطيع أن نجد مصداقا لذلك في كتاب اختلاق اسرائيل القديمة وإسكات التاريخ الفلسطيني للبروفيسور( كيث وايتلام). فمنذ حوالي عام1850, تم تأسيس الكثير من الجمعيات في أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية لهذا الاتجاه الذي يوضحه الدستور الخاص بصندوق استكشاف فلسطين, الذي أنشئ عام1865, وفحواه: أن فلسطين لم تكن مهمة في ذاتها.. بل لاختلاق اسرائيل القديمة سلف اسرائيل الحديثة, ولأجل ذلك كثيرا ما خربوا التتابع الأثري في حمأة دراساتهم غير العلمية, وبحثهم الفوضوي عن أسانيد تدعم ما بين أيديهم من أخبار ومرويات, لا وجود لها إلا في مسخهم التوراتي. كما يوضح هذا الاتجاه ما تضمنه وعد بلفور وصك الانتداب حول أرض الأجداد أو الحق التاريخي في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين, وهكذا نجح الصهاينة في السيطرة علي مراكز الأبحاث والدراسات التي تتولي هذا الجانب في الغرب, وكذلك تجنيد مجموعات من الباحثين والكتاب والأثريين والمؤرخين. وعن طريق هؤلاء تسربت المعلومات الزائفة علي علاتها إلي المؤرخين العرب عموما, وبالنقل الحرفي أحيانا, كحقائق تاريخية لا سبيل إلي انكارها وقد كانوا مهيئين لذلك بفعل تأثير الاسرائيليات في الفكر الاسلامي علي مدي مئات السنين. وقد اكتملت خيوط هذا الاتجاه بتأسيس دائرة آثار اسرائيل عام1948. بهدف السيطرة علي المواقع الأثرية, وبالتالي فرض الرقابة علي نتائج عمليات التنقيب, وقد قامت تلك الدائرة ومعها المعاهد الجامعية والجمعيات التاريخية والأثرية, بالنشاط الأثري والتاريخي بشكل واسع ضمن الاطار الثقافي لأصحاب الخطاب التوراتي. وكانت آخر حلقات هذا الاتجاه, قد نمت بعد ابتلاعهم لفلسطين بكاملها عام1967, حيث جرت التنقيبات علي قدم وساق, بعد أن عجزت بعثات التنقيب السابقة تماما, عن الفوز بما يطمحون اليه, وأصبحت القضية بالنسبة اليهم قضية حياة أو موت, فأعلنت حالة الاستنفار علي أشدها, وهيأوا لها كل ما تحتاجه من إمكانات, وأضحي الكشف عن أي أثر يثبت وجود اسرائيل القديمة, بمثابة هاجس وطني تلاحم فيه العسكري والسياسي وعالم الدين وعالم الآثار, ويتمثل ذلك في مسيرة حياة أبرز شخصيات الكيان الصهيوني التي جمعت بين النشاط العسكري والسياسي والأثري, والجنرالات موشي ديان ويجئال يادين وأمير دوري الذي يرأس حاليا دائرة الآثار الاسرائيلية نموذجا. وقد شاء القدر أن نلقي هذه الهجمة الشرسة.. نفس المصير الذي لقيته سابقاتها, اذ لم يعثر علي أي أثر يثبت أي وجود لليهود في فلسطين قبل القرن الثامن ق.م, وهكذا نري أن حصان الخطاب التوراتي, الذي طالما طاف في أراضي فلسطين لأكثر من مائة وخمسين عاما, شاء القدر أن تغلق في وجهه المنافذ, ولاتزال الدائرة تضيق عليه يوما بعد يوم, فكل أثر جديد يكتشف وسع الهوة بين الروايات التوراتية وحقائق التاريخ. وقد زاد في تضييق الدائرة تلك, حركة مضادة في أوساط الباحثين الغربيين من نبلاء الضمير الذين أفلتوا من قبضة الخطاب التوراتي والاستخدام الذرائعي للروايات التوراتية لتبرير سياسة ما, وعلي رأس هؤلاء كان عالم الاثار الأمريكي( بول لاب) الذي ترأس بعثة تنقيب في فلسطين عام1962 بالقرب من نابلس, ففتح عمله الطريق لنقد علم الآثار التوراتي أمام كاثلين كنبون والبرت جلوك وآخرين. وتسلم الراية من هؤلاء جمع غفير من نبلاء الضمير أمثال: وليم ديفر, توماس ليفر, جوناثان تب, كيث وايتلام, جورج مندهول وآخرين, وبفضل جهودهم أصبح بإمكاننا التفاؤل بأن ثمة أملا في المستقبل القريب ببدء فك الحصار عن التاريخ الفلسطيني, وتكسير القيود التي كبلته طويلا. والأبلغ من ذلك في الدلالة, أن يجد هذا الاتجاه من يؤيده بين المؤرخين وعلماء الآثار وعلماء الانثروبولوجيا الاسرائيليين أنفسهم, ففي يوليو1998 أعلن فريق من علماء الآثار العاملين في دائرة الآثار الاسرائيلية بطلان العديد من الادعاءات التوراتية, معترفين في الوقت نفسه بأهمية الحضارات الفلسطينية التي سبقت الوجود اليهودي المزعوم بعشرات القرون من الزمن, ومما قاله أحدهم( روني ريك): آسف لأن اسليد داود والسيد سليمان لم يظهرا في هذه القضية, ووفقا لهذا النسق من الأفكار. انتهي عالم الآثار الاسرائيلي( زئبق هوتسوج) إلي أنه بعد الجهود الجبارة في مضمار التنقيب عن اسرائيل القديمة, توصل علماء الآثار إلي نتيجة مخيفة, مفادها أنه لم يكن هناك أي شيء علي الاطلاق, وحكايات الآباء مجرد أساطير, الباحثون والمهتمون يعرفون هذه الحقائق منذ زمن, أما المجتمع فلا.. وما انتهي اليه هرتسوج يشبه شيئا من قبيلة فيما انتهي اليه بسرائيل فينكلشتاين رئيس المعهد الأركيلولوجي في جامعة( تل أبيب) وزميله سيلبومان ونداف نئمان. ووفقا لهذا النسق من النتائج, توصل كل من( جربيتي وليتش وفلاناجمن) وهم من أكبر علماء الآثار في اسرائيل. إلي أن الغياب لأي سجل آثاري, هو الذي يثير أخطر الشكوك حول تصور دولة سليمان, مما يوحي بأننا بصدد ماض متخيل. ونحن نستطيع أن نتوسع في هذه القائمة وتزيدها طولا, لكن ضيق المساحة يفرض علينا التوجه لأخذ شهادات البعض من المؤرخين والانثروبولوجيين الاسرائيليين ومنهم توم سيجف الذي سارعلي درب علماء الانثروبولوجيا الغربيين. الذين توصلوا إلي أن تجانس اليهود العرقي, ليس إلا أسطورة, فقد كانت اليهودية ولاتزال دينا, ولم تكن عرقا علي الاطلاق.. فيصرح سيجف بأن الصهاينة كانوا في حاجة إيجاد عرق مشترك واستمرارية تاريخية, وهو ما أسفر عن سلسلة من الأكاذيب ولقد ذهب شلوموزاندا في كتابه متي وكيف تم اختراع الشعب اليهودي إلي أبعد من ذلك, حيث يؤكد كذب المقولة بأن هناك شعبا يهوديا, بل فقط ديانة يهودية, ويخلص إلي رفض كل النصوص والقصص التوراتية التي تشير إلي الهوية القومية اليهودية, بما في ذلك الخروج من مصر وغزو فلسطين أيام موسي, وقال: إن كل تلك القصص لا تعدو كونها أساطير غير صحيحة, تستخدم ذريعة لاقامة الكيان الصهيوني في فلسطين. وهذا كله يسخف ما ذهب اليه نتانياهو في سباق حملته علي اليونسكو بأن قرارها يمثل محاولة لقطع العلاقة بين شعب اسرائيل وتراثه لأسباب سياسية تتنافي مع العقل السليم.. ووصفه للقرار بأنه غير منطقي وسخيف, لأنه لا يعقل الفصل بين اليهود وموروثهم الثقافي وأماكنهم المقدسة منذ أكثر من أربعة آلاف عام. إن هذه الثمرات الصهيونية المرة, لم تكن لتنضج من تلقاء نفسها, ولكن علي شجرة موقف الصمت العربي المطلق والعجز الصارخ أما هذا الاكتساح الشيطاني, وهو الموقف الذي يصدق عليه ما قاله الفيلسوف الصيني( منشبوس): عندما يقهر الناس علي الخضوع بالقوة, لا تخضع عقولهم, وإنما يكون خضوعهم بسبب عجز قواهم, أما عندما تقهرهم بقوة الشخصية علي الخضوع. فإن سرورهم بتغلغل إلي قرارة نفوسهم, ويمتثلون للخضوع فعلا....