من حيث الشكل, يبدو انهيار حكومة الوحدة الوطنية بزعامة الحريري تعبيرا عن أزمة سياسية ودخول البلد في فترة اضطرابات, لكن من حيث الجوهر أو الجانب العملي, فإن انهيار الحكومة يعني دخول لبنان فترة تتراوح بين شهر وربما3 أشهر يتمتع خلالها باستقرار نسبي لا تخلو من مناقشات سياسية بطبيعة الحال تستغرقها مشاورات تشكيل حكومة جديدة. كما يعني إسقاط المعارضة الحكومة وقف تمويل لبنان المحكمة الدولية الخاصة بقضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري بالأمر الواقع, حيث لم تقر الحكومة الموازنة قبل انهيارها, ما يحقق بالتالي أحد مطالب المعارضة. كما يعني إسقاط الحكومة ثالثا التمهل في صدر القرار الاتهامي في القضية المفترض حسب التسريبات أن يوجه الاتهام لعناصر من حزب الله بارتكاب الجريمة, وصعوبة تنفيذه حتي في حالة صدوره لغياب حكومة في فترة المشاورات تستطيع سلطاتها تنفيذ قرار مجلس الأمن وطلبه من النائب العام التمييزي إلقاء القبض علي المتهمين وتسليمهم للمحكمة في لاهاي, وذلك وفق اتفاقية إنشاء المحكمة وبروتوكول التعاون مع الحكومة لعام2006, ما يعني بالتالي أيضا تجميد عمل المحكمة لفترة قد تطول حتي شهر مارس من العام المقبل موعد انتهاء ولاية المحكمة الدولية؟! هذه الأمور جعلت هناك وجهتي نظر حول الأوضاع في البلد خلال الفترة المقبلة, الأولي: تري أن الأمور تتجه إلي التصعيد وربما المواجهات المسلحة علي غرار أحداث السابع من مايو2008, والثانية: تري أن هذا التطور( إسقاط الحكومة) يثير التفاؤل بجانب دعوي أنه قد يكون الخطوة الأولي لتسوية الخلاف بين الفرقاء حول المحكمة الدولية ومفاعيل القرار الاتهامي في لبنان, والخطوة الثانية في تفاهم إقليمي إيراني أمريكي بعد الخطوة الأولي في العراق بالتوافق علي تشكيل نوري المالكي الحكومة العراقية. ومن ثم تتجه أنظار اللبنانيين إلي جولة المفاوضات الإيرانيةالأمريكية المقبلة في استنبول يومي21 و22 من شهر يناير الحالي في إطار مجموعة(5+1) حول الملف النووي الإيراني, وهو الملف الذي بدا أنه مظلة لبحث القضايا الإقليمية, الأمر الذي كشفه السجال بين إيران ووزيرة الشئون الخارجية الأوروبية أشتون الشهر الماضي, فهناك قناعة لدي بعض الأطراف بأنه لا حاجة لواشنطن وباريس للمحكمة بعد تبرئة سوريا إلا كورقة ضغط علي إيران عبر حزب الله في لبنان. وفي هذا السياق بعد إسقاط الحكومة من قبل ممارسات عض الأصابع بين إيران والولايات المتحدةالأمريكية( اللاعبين الأساسيين) مباشرة قبل جولة مفاوضات استنبول في إطار تحسين الشروط والتكاليف.. وفي هذا السياق أيضا ربما جاءت إزاحة الجهود السعودية السورية لمساعدة الفرقاء اللبنانيين علي إنتاج حل للأزمة( المبادرة) جانبا لدخول اللاعبين الأساسيين إلي الساحة بعد خمسة أشهر ونصف الشهر قضاها السعودي والسوري منذ قمة بيروت الثلاثية نهاية شهر يوليو الماضي في محاولة إنتاج حل. لكن التشاؤم بسبب احتمالات التصعيد وفشل جولة استنبول تسيطر علي الشارع اللبناني علي ضوء الحرائق التي اشتعلت في العالم العربي من انفصال جنوب السودان إلي الاضطرابات في تونس والجزائر, مرورا باستهداف الأقباط في مصر, والتعامل الدولي المريب مع هذه الأحداث, وبتقرير مجموعة الأزمات الدولية( صاحبة تقرير انفصال كوسوفو عن صربيا) حول ما سمته مسألة سيناء وشعب سيناء, وبالأوضاع في اليمن, وبمطالبة أكراد العراق بحق تقرير المصير, وبإثارة النزاعات المذهبية الشيعية والسنية في البحرين والسعودية, وبين السكان في الأردن بين الأردنيين والمواطنين من أصل فلسطيني. ففي هذا المناخ يشعر اللبنانيون بالقلق من أن يكون إسقاط الحكومة خطوة في هذا السياق الإقليمي العام يستهدف تفجير المنطقة إقليميا عبر البوابة اللبنانية( التقليدية) باعتبارها أقرب البوابات إلي الصراع العربي الإسرائيلي, ولصرف الانتباه عن صفقات وتفاهات وملفات أخري, وربما تئول إلي عدوان إسرائيلي جديد علي لبنان ضمن مخطط الشرق الأوسط الجديد, وسيناريو الفوضي الخلاقة اللذين تبنتهما الادارة الأمريكية السابقة برئاسة جورج بوش ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس, ويستكمل الرئيس الديمقراطي باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون وأجهزة الادارة تنفيذهما. وقد تجلي القلق ومشاعر الخوف من التصعيد وحدوث اضطرابات مصاحبة في الشارع, في انفراج أزمة السير وخفت حركة السيارات, وإلغاء حجوزات مطاعم ولقاءات منذ اعلان فشل المبادرة السعودية السورية مساء الثلاثاء الماضي ثم إسقاط الحكومة مساء الأربعاء, وتحذير الأسر والعائلات لأبنائها من التجمعات خشية اندلاع اضطرابات, قبل أن تعود الحياة تدريجيا إلي حالتها شبه الطبيعية فقد نجحت المعارضة في جعل المزاج اللبناني العام يري استمرار عمل المحكمة تهديدا للاستقرار؟! والتوصل إلي تسوية تعزيزا للاستقرار, وفي جعله كذلك يميل نحو تمني استمرار الجهود السعودية السورية, والتطلع إلي تحرك قطري, وذلك للتهدئة بين الفرقاء, ومطالبة الرئيس ميشال سليمان بالدعوة فورا إلي عقد جلسة استثنائية لطاولة( هيئة) الحوار الوطني للعمل علي انتاج حل لبناني لأزمة وطنية ولو لمرة واحدة في تاريخ تلك النخبة السياسية الطائفية. وهذا العمل سيكون علي المحك في المشاورات المنتظرة لتشكيل الحكومة الجديدة حيث ستواجه المشاورات والحكومة استحقاقات أو بالأحري شروطا تتعلق بالعلاقة مع سوريا ووضع أسس لبناء علاقة لاتسمح هذه المرة بعودة العلاقة إلي نقطة الصفر, وكذلك تتعلق بموقف الحريري من المبادرة السورية السعودية, وبمدي التأثير الأمريكي الفرنسي علي الموقف من عمل المحكمة. مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة: وفيما يبدأ الرئيس اللبناني ميشال سليمان مشاوراته مع رؤساء الكتل النيابية في مجلس النواب غدا الاثنين لتسمية المرشح للتكليف بتشكيل الحكومة الجديدة, عقد فريق الأكثرية(14 آذار) اجتماعا فور عودة رئيس حكومة تصريف الأعمال زعيم الفريق سعد الحريري من جولته الخارجية للتأكيد علي تسميته لتشكيل الحكومة الجديدة, وأكد رئيس كتلة الفريق النيابية رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة أنه ليس هناك بديل للحريري. وفي الوقت الذي تواصل فيه قوي المعارضة(18 آذار) مشاوراتها لطرح اسم مرشح بديل علي رئيس الجمهورية وحددت شروطا للموافقة علي اسم المرشح تتعلق بموقفه من المحكمة الدولية والمقاومة, وصف مصدر نيابي في فريق الأكثرية, تداول اسم محمد الصفدي وزير التجارة والاقتصاد بأنه ترسبات من العارضة للضغط علي أعصاب الحريري ومحاولة بائسة لإثارة البلبلة داخل صفوف الأكثرية, فيما طرحت أوساط المعارضة اسم رئيس الوزراء الأسبق النائب الحالي عن طرابلس نجيب ميقاتي, واعتبرت أوساط الأكثرية ان اسم كل من رئيسي الوزراء السابقين عمر كرامي وسليم الحص خارج اللعبة لقربهما من المعارضة برغم أن الأخير( الحص) كان قد أطلق قبل أيام تصريحات دعا فيها حزب الله والمقاومة إلي التزام الانضباط واحترام القوانين ومصالح العباد.. وحذرها من التوسط في استخدام السلاح في الداخل. وبالتوازي يتوجه إلي دمشق خلال ساعات عدد من القيادات السياسية في مقدمتها الزعيم الدرزي رئيس اللقاء الديمقراطي( الوسط) وليد جنبلاط للتشاور, كما من المنتظر أن يتوجه إلي العاصمة السورية زعيم تيار المردة سليمان فرنجية وعدد من قيادات المعارضة التي رفضت وصف استخدام الحق الدستوري بالاستقالة بأنه انقلاب. وبينما ألمحت وسائل الاعلام القريبة من المعارضة أمس إلي احتمال تخلي جنبلاط عن موقعة الوسط والانضمام للمعارضة(11 نائبا في البرلمان) حتي تتحول إلي أكثرية وتشكل الحكومة الجديدة لتنفيذ استحقاقاتها بإلغاء المحكمة الدولية, رجحت الأكثرية بقاء جنبلاط في موقعه لأن هذا الانضمام, وذلك التحول ليس في مصلحة المعارضة التي تحاول الغاء المحكمة تحت غطاء يكتسب طابعا وطنيا وليس تحت غطاء الثامن من آذار لادراكها أن تشكيلها حكومة صعب. من الناحية الدستورية وعلي قاعدة التوافق, واتفاق الدوحة, وأنها قد تعرض البلد لفتنة ولإحداث شرخ, وأنها أيضا قد تواجه دوليا نفس مصير حركة حماس في قطاع غزة عندما شكلت الحكومة الفلسطينية عام2006, كما تدرك أن وضعها كشريك في الحكومة وممارسة الابتزاز من داخلها يعد وضعا مريحا لها. كما رجحت عدم دعوة الرئيس سليمان لعقد جلسة عاجلة لطاولة( هيئة) الحوار الوطني استجابة لدعوات شعبية وسياسية لانتاج حل لبناني للأزمة حول المحكمة, وقالت المصادر أنه لاتأثير لاسقاط المعارضة الحكومة علي المحكمة. من جانب آخر تجري مشاورات فرنسية سورية بشأن التطورات في لبنان لجهة دعم الاستقرار في لبنان, ووصل السفير الأمريكي الجديد روبرت فورد إلي دمشق لتقديم أوراق اعتماده بعد غياب خمس سنوات منذ مغادرة السفيرة السابقة في دمشق الحالية في القاهرة مارجريت سكوبي حتي يتمكن من مباشرة عمله واجراء مشاورات مع المسئولين السوريين. وعلي صعيد الوضع الداخلي والمناخ العام في لبنان باشرت السلطات التحقيق في حادث القاء قنبلتين مساء الخميس الماضي علي مقر للتيار الوطني الحر بزعامة ميشال عون في بيت الشباب, وأدانت قوي14 آذار الحادث, واستنكره حزبا الكتائب والقوات اللبنانية, واعتبراه محاولة لتوتير الأجواء ولتحويل السجال السياسي إلي أعمال ترويع. وأكد قائد الجيش العماد جون قهوجي أن الجيش لن يسمح بالفتنة, وكان قهوجي قد عقد اجتماعا مع نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع الياس المر لبحث الأوضاع الأمنية. وأستنكرت القوي السياسية كذلك أعمال الشغب التي اندلعت بين جمهوري الفريق الرياضي المحسوب علي الطائفة السنية والشانفيل المحسوب علي تيار عون في أعقاب مباراة في كرة السلة بين الفريقين وأتخذت طابعا طائفيا بين المسلمين والمسيحيين من ناحية وسياسيا بين تياري المستقبل والوطني الحر من ناحية ثانية علي وقع الأزمة السياسية. في غضون ذلك توقع رئيس الوزراء الأسبق سليم الحص دخول لبنان أزمة سياسية طويلة ويري المراقبون أن مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة قد تستغرق شهرا أو أكثر, وربما تستمر حكومة تصريف الأعمال غير المخولة اتخاذ قرارات مصيرية حتي مارس2012 موعد انتهاء ولاية المحكمة الدولية.