هناك مشكلة تواجهها مصر وهي أن كثيرا من دول العالم تتصور أن مصر دولة مثلها مثل بقية دول الشرق الأوسط أو حتي العالم الثالث عموما ويبدو ذلك حادا في العاصمة الأمريكيةواشنطن التي تنمو فيها الشائعات الأكاديمية كما ينمو العشب في الطرقات حيث يسير النم العلمي بمشابهات بين مصر وهذه الدولة أو تلك. ولكن المشكلة تصبح أكثر حدة بكثير حينما يعتقد بعض المصريين في ذلك; وبالطبع فإن شيوع ذلك بين المهاجرين المصريين ليس مدهشا خاصة من احترفوا السياسة منهم وبات جزءا من الأرزاق وتصديق الذات أن تعتبر مصر امتدادا للعراق أو شبيهة للسودان أو فيها ملامح سورية أو لبنانية أو باكستانية. ولكن المدهش فعلا هو أن مثل هذا المنطق المعوج, ونتيجة ظروف آنية يجد له مكانا بين مصريين يوجدون في أرض الوطن. والواقع هو أن مصر دولة حقيقية بالمعني الذي استقر لأعرق الدول القومية, ليس فقط لأنه كان لها شعب كبير له سلطة مركزية فوق أرض معروفة الحدود لأزمان طويلة تصل إلي آلاف الأعوام, ولكن لأن هذا الشعب تم اختباره واختبار سلطته السياسية خلال هذه الأزمنة الطويلة. هنا فإن فقر الدولة, أو استعمارها من قبل هذا أو ذاك من الشعوب والأمم, لم يغير من الأمر شيئا كثيرا حيث كانت مصر دائما لها ذاتيتها السياسية الخاصة كمملكة فرعونية أو هيلينية أو رومانية أو حتي ولاية عربية إسلامية. وكانت المسألة ببساطة هي وجود شعب واحد كان عليه في كل الأوقات أن يتعامل مع السلطة السياسية, محلية أو أجنبية, باعتبارها وظيفة لإدارة شئون دولة هي المعبرة عن المصريين إزاء الدولة المسيطرة, ولم تكن هناك مصادفة أن كثيرا من الغزاة كانوا يجدون أنفسهم في دولة أخري ومن ثم حاولوا الاستقلال بالدولة التي غزوها من قبل عن الدولة أو الإمبراطورية التي جاءوا بها.أسباب ذلك من الصعب حصرها, ولا يمكن بعد ثلاثة آلاف عام من الدولة الفرعونية إزالة أصول الدولة. وربما كان للنيل أثر في أنه مهما كان الوضع السياسي للوحدة السياسية الدولة فإنها في النهاية عليها أن تدير حركة دقيقة لنهر, وحضارة زراعية تنتج المحاصيل والغذاء, وممتدة في أقاليم متسعة تصل بين البحر الأبيض الجسر إلي أوروبا وأفريقيا عبر النيل وآسيا فوق البحر الأحمر. قد يكون كل ذلك سببا, ولكن السبب الأعظم كان أن المصريين قرروا منذ وقت طويل أنهم شعب آخر غير بقية شعوب الدنيا, ومن جاءهم وعاش كثيرا جري تمصيره بسلاسة عجيبة, حتي الأديان خاصة المسيحية والإسلام فقد جري تمصيرها بالكنيسة الأرثوذكسية الوطنية المستقلة; أما بالنسبة للإسلام فقد جري العرف بين الفقهاء أن الفتوي في مصر تختلف عن الفتوي في بلدان أخري. كل ذلك جعل من المصريين جماعة ثقافية وسياسية واحدة بكل ما لها وما عليها من إيجابيات وسلبيات. هذا الواقع تعرض للاختبار مرة أخري, ربما للمرة الألف خلال الأيام الأخيرة يوم حادث الإسكندرية الإجرامي في كنيسة القديسين حيث ظهر المعدن المصري من خلال الحركة التضامنية للشعب, والحركة السياسية للأحزاب والفرق. فأحد المردودات الإيجابية التي نتجت عن الأحداث تلك الأنشطة التضامنية التي نظمها الآلاف من المصريين, وأغلبهم من المسلمين للتضامن مع الأقباط باعتبارهم شركاء في وطن واحد, ويجمعهم نسيج مجتمعي واحد, ويواجهون مصيريا مشتركيا في السراء والضراء. فإذا كان التصور السائد لدي غير العارفين بمصر أن العملية الإرهابية استهدفت الأقباط بمفردهم فهو خاطئ لأنها وجهت للمصريين, وطالت خسائرها مسلمي مصر وأقباطها معا. فما جري في الإسكندرية ليس حادثة طائفية وإنما جريمة إرهابية, بكل ما تحمله الكلمة من معان ودلالات. فالإرهاب لا يقصد دينا سماويا معينا أو فئة مجتمعية محددة وإنما يستهدف وطنيا. وقد عبر عن هذا المعني الاتحاد العام للمصريين في الخارج في بيانهم, حيث أشار الاتحاد إلي أن هذه الجريمة استهدفت الأمة بأسرها. فيما يتعلق بمواقف واتجاهات الأحزاب السياسية المدنية من العملية الإرهابية, فقد كانت حاضرة من خلال تصريحات لقياداتها أو إصدار لبياناتها. وقد اعتبرت معظم الأحزاب أن ما حدث يهدف إلي تحطيم روابط الأمة وخلق الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين. فعلي سبيل المثال, تشير وجهة نظر عدد كبير من أعضاء الحزب الوطني إلي أن هذه الأحداث ليست موجهة إلي طائفة واحدة بل إلي جميع المصريين, الأمر الذي يفرض علي كافة مؤسسات الدولة النضال لاقتلاع جذور التطرف والتعصب من المجتمع عن طريق نشر الخطاب التنويري بين المواطنين من خلال الثقافة والإعلام والتعليم. كما دعت أمانتا الإعلام والشباب بالحزب إلي تنظيم مشاركة لأعضاء الحزب في احتفالات الكنائس بقداس عيد الميلاد, تعبيرا عن روح الوحدة والتضامن التي تجمع بين مسلمي مصر وأقباطها, والتأكيد أن الأخطار التي تواجه مصر هي أخطار مشتركة ينبغي التصدي لها بروح واحدة. ونص بيان حزب التجمع الصادر في1 يناير علي ما يلي أنه يستنكر حادث الإسكندرية المروع الذي راح ضحيته23 من المواطنين ويدين هذا التطور المخيف باستخدام الإرهابيين أسلوب السيارات. وفي هذا السياق, فإن حزب التجمع يطالب وبأقصي سرعة باتخاذ الخطوات التالية: الإصدار العاجل لقانون العبادة الموحد, وإعادة النظر في برامج الإعلام ومناهج التعليم التي تثير الفرقة بين المواطنين وتلهب مشاعر التعصب, وفي نفس الوقت إيجاد خطاب أكثر احتراما في التعامل مع رموز رجال الديانتين. كما يهيب حزب التجمع بكل المواطنين بالتمسك بالاحترام المتبادل بين مختلف المصريين بغض النظر عن ديانتهم ويهيب بالمثقفين المستنيرين ورجال الدين الحريصين علي وحدة الوطن أن يبذلوا أقصي جهد ممكن في مواجهة الفتنة وبواعثها والمحرضين عليها. في حين أشار الحزب العربي الناصري في بيانه الذي صدر في نفس يوم الحادث إلي أن ما جري في الإسكندرية يدشن لإحداث فتنة تستهدف النيل من الوحدة الوطنية, ودعا الحزب إلي ضرورة إزالة مناطق الالتباس والاحتقان التي يمكن استغلالها لضرب الوحدة الوطنية وإقرار حقوق المواطنة للجميع وإقرار قانون دور العبادة الموحد حتي لا يكون ثمة مبرر للاحتقان. وطالبت قيادات حزب الوفد, دون أن يصدر عن الحزب بيان, الأحزاب والقوي الوطنية بالتكاتف من أجل مواجهة مثل هذه الجرائم التي تهدف إلي ضرب الوحدة الوطنية بمصر, لاسيما أن هذا الحادث غير مسبوق حدوثه في مصر بضرب دور عبادة, خاصة في ليلة يحتفل فيها المسيحيون والمسلمون بقدوم عام جديد. ووفقا لتصور قيادات وفدية, فإن الهدف من فكرة ضرب دور العبادة هو زرع روح العداء والصراع بين المسلمين والمسيحيين, الأمر الذي ترفضه كل القوي الوطنية, والتي قد نادي بها حزب الوفد منذ ثورة1919, وشعاره يحيا الهلال مع الصليب. أما حزب الجبهة الوطنية الديمقراطية فقد أصدر بيانا عبر فيه عن تضامنه مع المصريين كلهم, مسلمين وأقباطيا.. أهالي الشهداء والمصابين, وأكد ضرورة إرساء مبدأ المواطنة في المجتمع المصري, وأن يكون7 يناير يوميا لكل المصريين وليس للأقباط فقط بحيث يجتمع أكبر عدد من المصريين في كل الكنائس لمشاركة الأقباط في القداس. كما وجه الحزب عتابا إلي القوي الدينية في مصر وعلي رأسها جماعة الإخوان المسلمين لعدم خروجها فور علمها بالحادث( وإن أصدرت بيانا في مرحلة لاحقة) ببيانات عامة توحد مختلف القوي الوطنية وتؤكد الالتزام بالمساواة بين المسلمين والأقباط. وقد شكل حزب الجبهة وفدا للسفر إلي الإسكندرية لعزاء أهالي الشهداء. وأدانت دار الإفتاء المصرية في بيان أصدرته في4 يناير الماضي الحادث, وأكدت تحريم الإسلام القاطع للاعتداء علي الأبرياء بوجه عام, بغض النظر عن دياناتهم وأعراقهم وجنسياتهم داخل وخارج دور العبادة, وكذلك تحريم الاعتداء علي دور العبادة الخاصة بغير المسلمين. وطالب د.علي جمعة مفتي الجمهورية بالتركيز علي مبادرة كلمة سواء التي أطلقها منذ ثلاث سنوات أكثر من132 عالما من مختلف أنحاء العالم هو من بينهم, وهي مبادرة تدعو إلي حب الله والجار والبحث عن المشترك من واقع القرآن والإنجيل للمساهمة في حل أي مشاكل للاحتقان الطائفي في البلاد, وتدعو المبادرة إلي قيام مشاريع مشتركة بين المسلمين والأقباط. في حين دعا د.أحمد الطيب شيخ الأزهر إلي إنشاء بيت العائلة المصرية كصوت مشترك للأزهر والكنيسة لمواجهة دعاوي الفتنة الطائفية وإزالة أي أسباب للاحتقان بين المسلمين والأقباط. ونظمت وقفات ومسيرات احتجاجية داخل العديد من الجامعات المصرية, شارك فيها رؤساء الجامعات والنواب والعمداء وأعضاء هيئات التدريس والعاملون والطلاب, ورددت هتافات مختلفة مثل لا للإرهاب..نعم للوحدة الوطنية وشعب واحد..وطن واحد ويا محمد يا مسيح.. الوطن هو الذبيح والجامع جنب الكنيسة ومصر بخير.. طول ما المسجد جنب الدير. كما أطلقت قافلة شعاع الخير التي تضم عددا من طلاب جامعة الزقازيق بمحافظة الشرقية مبادرة حماية كنائس مصر في المحافظة, يومي6 و7 يناير, تضامنا مع الأقباط ليلة قداس عيد الميلاد. ودعت ساقية الصاوي, وهي واحدة من أشهر المراكز الثقافية في مصر, إلي تجمع المسلمين ليكونوا دروعا بشرية تحمي كل التجمعات المسيحية في الكنائس, خاصة في احتفالات عيد الميلاد. ودعت عدة قنوات فضائية إلي مبادرة نصلي معا. هذا الإجماع القومي لم يجر تنظيمه من أحد, ولم تصدر به إشارة من سلطة عظمي, حتي عندما قامت جماعات من المسيحيين بالتظاهر والاحتجاج فإن المسلمين لم يجدوا غضاضة في ذلك بل رأوه أمرا طبيعيا في حادث أليم. ولكن الأهم من ذلك كله فقد كان ظهور برنامج وطني لدعم الوحدة الوطنية يقع في مقدمته التعامل مع القضايا المثارة من قبل المسيحيين والمتعلقة بدور العبادة أو مظاهر التمييز في الوظائف العامة. ورغم أن ذلك لم يكن له علاقة مباشرة بمواجهة الإرهاب الذي يتفق الجميع علي إدانته, فقد كان ذلك إشارة إلي أن المواجهة مع الإرهاب تستوجب أن يكون الصف الوطني بلا شكوك أو هواجس أو مشكلات معلقة. لقد خرج المصريون من الامتحان بنجاح كبير, وبقي عليهم تعبئة الوطن كله ضد الإرهاب, والسلطة السياسية ليس فقط للمعركة مع الإرهاب والتطرف, ولكن أيضا لحل كل المشكلات المعلقة التي لم يعد ممكنا التسامح معها في ظل دولة مدنية حديثة. [email protected]