أكتب هذا المقال صباح يوم الجمعة الماضي قبل ساعات من وصول الدكتور محمد البرادعي إلي القاهرة; وبعد ثلاثة أيام قضيتها في الكويت لحضور ورشة عمل عن الأوضاع الاستراتيجية في الشرق الأوسط. ورغم أن أحوال إيران, والعراق, وطبعا فلسطين, وأوباما, سيطرت علي أغلب المناقشات إلا أن مصر كان لها أيضا نصيب وحظ من تلك المناقشات, دار جزء منها حول ما تمت تسميته بظاهرة البرادعي وكيف يمكن لشخص أن يغير فجأة من المسرح السياسي لبلد بعينه. وكان تعليقي دائما هو أنه لا شك شيء رائع أن يعود الدكتور محمد البرادعي إلي مصر مرة أخري بعد أن رفع اسمها عاليا في العالم كله, ليس فقط بفوزه بجائزة نوبل; وإنما أيضا للأسباب التي من أجلها حصل علي الجائزة ومن بينها رفعه لشأن الوكالة الدولية للطاقة النووية, وموقفه الصلب ضد انتشار الأسلحة النووية في العالم. وفي كل الأحوال كان يمثل واجهة مصرية محترمة, بما له من ملامح وسمات, وحتي لكنة متميزة, وقبل كل ذلك بما لديه من حكمة ومعرفة. لكن ربما كان الأكثر روعة هو عزم الدكتور البرادعي علي الدخول إلي حلبة السياسة المصرية من بوابة الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية; وهو الأمر الذي لا شك يمثل إضافة إلي ساحة تعاني من نقص في الشخصيات' القومية', كما أنه شكل محفزا مهما لشخصيات' قومية' أخري مثل الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسي, والسيد منصور حسن وزير الإعلام المتميز في عصر الرئيس السادات, لكي يصبحوا أيضا جزءا من المجال العام في مصر. ولكن من بين هذه الشخصيات فإن الدكتور البرادعي يبدو كأنه الشخصية الوحيدة التي تتحرك وفق خطوات محسوبة ومخطط لها بدقة, فهو من ناحية يتجنب عمليات الإغراق الإعلامي التي قد تدفعه إلي الحديث عما لا يريد الحديث عنه, كما أنها تجعله معتادا أمام الرأي العام; ومن ناحية أخري فإنه يتجنب بمهارة الموضوعات الخلافية, خاصة مع جمهوره, ويركز علي مجموعة من النقاط التي تلقي توافقا عاما وهي الخاصة بالمادتين76 و77 من الدستور; ومن ناحية ثالثة فإن البرادعي غير متعجل للدخول إلي الساحة الجماهيرية وربما يكون استقباله هو أول ما يشاهده ويختبر به شعبيته, ومن المرجح أنه سوف يعطي نفسه وقتا قبل التوجه إلي لقاءات جماهيرية أخري مكتفيا بالظهور في كل البرامج الحوارية في الفضائيات المصرية لكي يجعل وجهه مألوفا للجماهير المصرية ومن بعدها تبدأ عملية اختبار الواقع المصري في شكل لقاءات تبدأ بالمجتمع المدني ولكنها لا تنتهي به. وفي تقديري فإنه بقدر ما سوف يكون حديث رجلنا موجها للحزب الوطني الديمقراطي, فإن حركته سوف تكون حريصة علي تحديد الفارق بينه وبين مجموعة من السياسيين المصريين الذين برزوا من خلال الفضائيات التليفزيونية ولكنهم لم يشكلوا جمهورا حقيقيا في مصر. وببساطة فإن البرادعي سوف يكون حريصا بشدة ألا يكون مثل الدكتور يحيي الجمل أو الدكتور حسن نافعة أو أيمن نور أو أسامة الغزالي حرب, حيث لا يجتمع إلا عشرات أو مئات; وإنما سوف ينتظر حتي يجد مئات الألوف فإذا لم يأتوا فسوف يترك الساحة بهدوء إلي واحدة من الساحات الدولية التي تنتظره. مثل هذه الإستراتيجية لا تعالج فقط صعوبة الدخول إلي ساحة السياسة المصرية بعد27 عاما من البعاد, ولكنها أيضا تسمح للقوي السياسية المصرية, في الحكومة والمعارضة, بالتكيف مع ظاهرة البرادعي. وقد بدا ذلك واضحا في المعالجة بالصمت أحيانا كما فعل حزب الوفد, والمعالجة باستباق الأحداث كما فعل أيمن نور من حزب الغد ساعة أعلن عن ترشيح نفسه رئيسا للجمهورية بغض النظر عن مدي قانونية ذلك, وفي التصريحات المؤيدة التي قال بها عصام العريان, ولكنك لن تعلم أبدا عما إذا كان التأييد يمثل كل طوائف الإخوان المسلمين أو أنه يمتد إلي أفكار الدكتور البرادعي أو أن التأييد لا يزيد علي كل ما يبدو أنه مضاد للحكومة والحزب الوطني الديمقراطي ولا شيء بعد. ومع ذلك فإن هذه الإستراتيجية لا يمكنها الاستمرار طويلا لأن هناك فجوة هائلة ما بين أفكار ومواقف الدكتور البرادعي والجمهور الذي يقترب منه من القوميين واليساريين وطائفة من الليبراليين وجماعات أخري وجدت في الساحة المصرية من أول جماعة' كفاية' حتي جماعة منع' التوريث'. فمن يراجع أفكار الدكتور البرادعي يجده ليبراليا أصيلا مؤمنا إلي أقصي حد بدولة مدنية, أو حتي علمانية, حديثة وأصيلة وواضحة لا التباس فيها ولا غموض. هنا لا يوجد مراوحة أو تردد فيما يتعلق بتوازن السلطات والفصل بينها, وبدولة في عمومها لا تتدخل كثيرا في حياة الأفراد وحرياتهم الأساسية, ومن ثم فإنها ليست دولة تدير الاقتصاد وإنما تنظمه. وفي العلاقات الخارجية فإن الرجل الذي عاش معظم حياته العملية في الغرب, ونهل من قيمه الليبرالية والديمقراطية لا يجد معني في خلق حالة من التناقض التاريخي معه. وضمن هذا الإطار فإن رجلنا أقرب إلي الرئيس السادات منه إلي عبد الناصر فيما يتعلق بعلاقات السلام مع إسرائيل, والعلاقات المصرية العربية. مثل هذه الأفكار لا تستقيم كثيرا مع أفكار الغالبية من جماعة' كفاية', وبالتأكيد فإن بينها وبين كل أفكار جماعة الإخوان المسلمين فجوة عميقة, وإذا التقت مع جماعة من السياسيين في قضية غير موجودة مثل' التوريث', وأخري حقيقية مثل التعديلات الدستورية, فإنه لا يوجد بعد ذلك مجال كبير للاتفاق. وفي الحقيقة إنه قد يوجد بين البرادعي وجماعات داخل الحزب الوطني الديمقراطي فيما يتعلق بالسلام مع إسرائيل والعلاقة مع الغرب واقتصاد السوق وحتي التغيير السياسي ما هو أكثر مما هو موجود مع الجمهور الحالي من السياسيين الذين يتطلعون للدكتور البرادعي بحماس شديد. ومع ذلك فإن للبرادعي جمهورا آخر غير مرئي وغير معروف بقوة داخل الساحة المصرية لأن مجاله لا يزال افتراضيا; وباختصار فإن60 ألفا من الذين وقعوا للبرادعي علي شبكة المعلومات الدولية غير معروف عنهم الكثير, ولكنهم ممن يريدون التغيير وكفي; ومثلهم وقع من قبل لأيمن نور, وأسامة الغزالي حرب, وجمال مبارك, وببساطة فإنهم يريدون جديدا في السياسة المصرية. ولكن الجديد لا يبقي جديدا إلي الأبد, خاصة بعد أن يصبح جزءا من الإطار العام للتفاعلات المصرية التي تجري بصورة زاعقة ومثيرة أحيانا كثيرة وبأكثر مما هو حادث بالفعل في الواقع, حيث تبدو مسيرة المجتمع والدولة بطيئة أو أبطأ مما يريده الناس ومن ثم مثيرة للسخط والاحتجاج والرفض. لكن كل ذلك أيا ما كان فيه من تفاعلات ينهي أولا حالة الاستقطاب الحاد والثنائية الصعبة بين الحزب الوطني الديمقراطي من ناحية وجماعة الإخوان المسلمين من ناحية أخري. فمثل ذلك سوف يعطي فرصة ثانية للأحزاب التقليدية خاصة الوفد والتجمع والناصري وحتي الجبهة الديمقراطية للعمل ضمن إطار مدني خلقه بقوة وجود شخصيات نبعت كلها من إطار الدولة المدنية حتي لو اختلفت توجهاتها بين اليمين واليسار. وثانيا فإنه سوف يفتح بابا لنقاشات أكثر عمقا مما اعتدنا عليه حول قضايا مصر الرئيسية خاصة أنها قد جاءت من شخصيات عملت في صلب الدولة المصرية حتي يمكن القول إن التغييرات التي يطالبون بها جاءت من صلبها. فالبرادعي مهما كانت توجهاته الآن جاء من صلب مؤسسة الخارجية المصرية والأمن القومي المصري, وكذلك الحال مع عمرو موسي ومنصور حسن, وخلال الشهور المقبلة ربما تضاف شخصيات أخري. هذه الشخصيات جميعها لم تأت من خارج النظام ولكنها كانت جزءا منه, وفي فترات من التاريخ لعبت دورا مهما في قراراته الرئيسية, وبشكل من الأشكال يمكن اعتبارها جزءا من شيوخ النظام الذين أضاف لهم العمل خارجه خبرات متنوعة. كل ذلك يجعل السياسة المصرية أكثر حيوية ربما, ولكن دون أن يخرجها عن إطارها المعلوم الذي يركز علي أن يكون التغيير من داخلها, ومن خلال التكيف مع واقع لم يعد كما كان; والمعضلة الوحيدة الباقية بين ما هو مطروح من أفكار حول تعديل الدستور, واستحالة تحقيق ذلك خلال الفترة الزمنية الحالية لن يحسمه إلا حركة السياسة خلال الشهور المقبلة حيث تختبر القوة الحقيقية للأفراد والجماعات وساعتها تتعدل أو تتغير الموازين أو تبقي علي حالها انتظارا لوقت آخر. فإن الدكتور البرادعي يبدو كأنه الشخصية الوحيدة التي تتحرك وفق خطوات محسوبة ومخطط لها بدقة, فهو من ناحية يتجنب عمليات الإغراق الإعلامي التي قد تدفعه إلي الحديث عما لا يريد الحديث عنه.فإن للبرادعي جمهورا آخر غير مرئي وغير معروف بقوة داخل الساحة المصرية لأن مجاله لا يزال افتراضيا; وباختصار فإن60 ألفا من الذين وقعوا للبرادعي علي شبكة المعلومات الدولية غير معروف عنهم الكثير. وللحديث بقية [email protected]