خلال الأسبوع الماضي قمت بزيارة سريعة لدولة الكويت الشقيقة لحضور ورشة عمل لتقييم الأوضاع الإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط. وما دار في الورشة ربما يكون موضوعا لمقال آخر. لأن مواضيع المنطقة تعددت وتفرعت; ولكن بدا بشكل ما أن تلك الدولة العربية الصغيرة حجما وسكانا توجد في قلب الأحداث كلها حيث العراق في الشمال بكل ما مثله من حالة في ذاته وحالة مع جيرانه, وإيران في الشرق حيث تتقاطع خطوط السياسات الدولية ويترقب الجميع بورصة الحرب والسلام فيها, ومنطقة الخليج كلها في الجنوب حيث النفط والأطماع الكونية حتي دسائس واغتيالات من كل نوع, وبعد ذلك يتكالب الشرق الأوسط كله حيث لا تبدو مصر أو فلسطين بعيدة, وتلوح أفغانستان وباكستان من أفق قريب. كل ذلك لا نحسه كثيرا في مصر التي تصاغ حياتها في العادة بحجم' الأزمات' التي تمر بها, وقد تركت القاهرة وأزمة' البوتاجاز' هي التي تصوغ السياسة فيها, أما في الكويت فإن نبض المنطقة وعوارضها وأحوالها ومخاوفها وقضاياها موجودة في كل مكان. في وسط ذلك كله برز موضوع بالغ الأهمية يفرض نفسه عليك فورا ساعة دخول غرفة الفندق والاطلاع علي صحف اليوم الكويتية التي تجدها كلها تجمع علي' استجواب' سوف يطرح في مجلس الأمة الكويتي. الخبر مع المناقشات يقودك فورا إلي قضية الديمقراطية التي تشغل بال العالم العربي كثيرا, ومصر خاصة هذه الأيام, حيث يتسارع السعي لانتخابات نظيفة, وتطرح تعديلات دستورية تغير التوازن الحالي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية, ولكن نادرا ما تتم الإشارة إلي السياسات التي سوف يتم السعي إلي تطبيقها بعد أن تكتمل كل المعالم التي لا تصح ديمقراطية بدونها. إن تجربة الكويت في التحول السياسي من النماذج العربية القليلة التي تبتعد عن الأشكال السلطوية الذائعة في الدول العربية, وهناك من يري أن الكويت' واحة الديمقراطية' في منطقة الخليج منذ عرفت الدستور في11 نوفمبر1962, وقد اتسمت الساحة الداخلية في الكويت بفعالية الحركة الثقافية وحيوية المجالس الديوانية ونضج الخبرة الإعلامية, ومواكبة المناهج التعليمية للرؤية العصرية, واستقلالية ونزاهة الأجهزة القضائية, وكذلك تعدد التجمعات الفكرية وتنوع التيارات السياسية التي تقترب في تكويناتها وأدوارها مما تقوم به الأحزاب السياسية في الأنظمة الديمقراطية, فضلا عن الارتقاء بمؤسسات المجتمع المدني التي تعرف هناك بجمعيات النفع العام. وقد نجح النظام السياسي الكويتي في الامتحان عند عملية حسم الخلافة أو تداول السلطة في الكويت عام2006 بشكل سلمي في أعقاب وفاة الأمير جابر آل صباح. وكانت المرة الأولي التي يصوت فيها برلمان عربي علي عزل حاكم دولة هو ولي العهد سعد آل صباح لاعتبارات صحية ويختار بدلا منه الحاكم الحالي الأمير' صباح الأحمد'. وكان ذلك إشارة إلي تبلور ملامح' ملكية دستورية' تعد متقدمة بالمعيار الخليجي العام, وتتجسد في الشكل المؤسسي للممارسة الديمقراطية والمتمثل في مجلس الأمة الذي يتم اختيار أعضائه البالغ عددهم خمسين عضوا عبر انتخابات تنافسية مباشرة, يمارس علي أثرها النواب أدوارا تشريعية ومهام رقابية, وهو ما يمكن ملاحظته بالموجات المتلاحقة من الاستجوابات النيابية, التي تتمخض عنها- في كثير من الأحيان- تغييرات وزارية. وبات واضحا أن هيكل النظام السياسي الكويتي, يشير إلي تصاعد ملحوظ في أدوار السلطة التشريعية, وهو علي عكس الحال السائدة في المنطقة العربية التي تتجه فيها السلطة التنفيذية إلي الهيمنة علي السلطة التشريعية. اللافت للنظر في النموذج الكويتي أن قضايا الخلاف بين النظام الحاكم وقوي المعارضة في الكويت تتم مناقشتها بشكل علني, ويلفت النظر أيضا أن قوي المعارضة الكويتية تعتبر نفسها مكملة للنظام الحاكم بشكل أو بآخر, وليست بديلا له. ورغم أهمية ذلك فإن للمسألة وجها آخر هو أن حالة المد والجزر بين الحكومة ومجلس الأمة تؤدي إلي عدم استقرار وزاري وغياب تناغم نيابي, ومن ثم يؤدي في بعض الحالات إلي شلل كامل في البلاد. فمن الملاحظ أن الكويت تشهد بين الحين والآخر, صدامات حادة بين الحكومة ومجلس الأمة, بما يؤدي في النهاية إما إلي استقالة الحكومة أو حل المجلس والدعوة لإجراء انتخابات جديدة. وهو الأمر الذي انعكس في تراجع متوسط عمر الحكومات الكويتية من عامين إلي ستة أشهر, وتقلص متوسط مدة المجالس النيابية من أربعة أعوام إلي ما يقرب من عام. ورغم أن التغيير في حال حدوثه يطول كلا من عناصر الحكومة وأعضاء مجلس الأمة, فسرعان ما يتكرر السيناريو بعد أن تحين لحظة الالتقاء, مع اختلاف السياق والموضوع, وتتعقد فصول الصراع مرة أخري, فمجلس الأمة لا يملك صلاحيات من شأنها إجبار الحكومة علي التخلي عن قراراتها التي اتخذتها والسياسات التي وضعتها بدون اللجوء إلي آلية الاستجواب. وتتوازي مع ذلك حملة إعلامية تعزف علي توجهات شريحة محددة من الرأي العام, لتصب كامل غضبها علي هذا الموقف الحكومي أو ذاك وهكذا, فيصبح حل المجلس هو الحل, وهو ما يثير تساؤلا منطقيا بشأن الدوافع التي تقود لذلك وتسهم في الدخول في هذه الحلقة المفرغة, بل قد يؤدي في نهاية المطاف إلي حدوث انتكاسات في التجربة الديمقراطية الكويتية في المستقبل تقضي علي المكتسبات التي تحققت علي مدي عقود طويلة. ولعل في التجربة الكويتية ما يعطي الكثير من الدروس لأنصار' الجمهورية البرلمانية' في النقاش المصري حول الإصلاح مادام أن أحدا لم يتعلم كثيرا من التجربة المصرية ذاتها, فالأزمات السياسية التي تشهدها الكويت, غالبا ما تصل إلي طريق مسدود. وهناك تفسيرات مختلفة لهذه الأزمات التي تواجه النموذج الكويتي في التحول الديمقراطي بعضها يتعلق بأوضاع وممارسات المعارضة الكويتية الممثلة داخل البرلمان, حيث إنها تستغل ما لديها من أدوات رقابية بدون دواع أو مبررات, حتي تظهر بمظهر القوي المعارض للحكومة أمام الرأي العام الكويتي. ولكن للمسألة بعدا آخر لا يقل عن أهمية الآلية السياسية في الممارسة الديمقراطية, وهو أن الأصل في النظام الديمقراطي هو السعي إلي رفع كفاءة الدولة في تحقيق أهدافها, ومن جانب آخر توسيع نطاق الحرية والاختيارات العامة والخاصة أمام الأفراد. وفي التجربة الكويتية توجد موجة من العداء لحرية الرأي والتعبير, التي تدخل في خانة' الحرية الشخصية' عبر التصورات التي يطرحها بعض أعضاء مجلس الأمة, وخاصة الذين ينتمون للتيارات السلفية أو الإسلامية المتشددة, حيث بدأت البلاد تعرف مصادرة الكتب وتمرير قانون لمنع الاختلاط في الجامعات والوصاية علي الأفكار وتقييد حرية الإبداع والعداء للفن والثقافة من خلال منع تدريس الموسيقي وإلغاء حفلات الغناء والدعوة لإغلاق الملاهي والفنادق وتقييد حركة السفر والتنقل, بل ومحاصرة بعض النائبات والوزيرات في المجلس بدعوي عدم ارتدائهن' الحجاب' تحت قبة المجلس. يضاف إلي ذلك توحش الاعتبارات القبلية والنزعات الطائفية, لدرجة أنه يتم إجراء انتخابات فرعية داخل القبائل قبل إجراء الانتخابات البرلمانية لاختيار من سيترشح من الأساس, بحيث تكون المواطنة علي أساس القبيلة وليس علي أساس الدولة. لذلك, لم يكن غريبا أن تغيب المرأة الكويتية عن ممارسة حق الترشيح لعقود طويلة بالرغم من أن الدستور الكويتي قد حرم التمييز علي أساس الجنس, ومع ذلك فقد رفض أغلبية النواب في مجلس الأمة المرسوم الذي أصدره سمو أمير البلاد في مايو1999 لإقرار الحقوق السياسية للمرأة, وإن تغير هذا الوضع لاحقا, وتحديدا في عام2005, ومارست هذه الحقوق في انتخابات2006, فأصبح هناك أربع سيدات' نائبات'. ورغم هذا التقدم فإن الذائع في الممارسة يجعل مجلس الأمة أداة رقابية غليظة علي توجهات وممارسات شرائح مختلفة من الرأي العام الكويتي, حيث تعد النخبة الحاكمة أكثر انفتاحا وأقل تسلطية من النخبة المعارضة, وخاصة فيما يتعلق بالحريات الاجتماعية والاقتصادية, علي نحو ما برز في مسألة الدعم الحكومي للقطاع الخاص وظاهرة سيدات الأعمال الكويتيات وتواجدهن البارز في المحافل الاقتصادية الخليجية والإقليمية بل والدولية. علاوة علي ذلك, فإن' الإفراط' الاستجوابي من جانب المعارضة قد حد من قدرة الحكومة علي الاستمرار في أو تبني بعض المشروعات التنموية, بما يمثل ضياعا لفرص استثمارية كانت الكويت ولاتزال في حاجة ماسة لديها لمواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية, علاوة علي تأخر مشروعات قوانين يمكن أن تحول الكويت إلي مركز مالي وتجاري في المنطقة ويدفع رأس المال الكويتي إلي الاستثمار خارج الكويت بأكثر مما يفعل داخلها. إضافة إلي ما سبق, فإن هناك من يفسر تراجع النموذج الديمقراطي الكويتي, بوجود مقاومة مجتمعية وثقافية للتغيير من جانب فئات محددة في المجتمع بغض النظر عن وزنها النسبي الأمر الذي يخالف التصور السائد في الذهن العربي العام وهو أن أنظمة الحكم هي التي تقود حملات التضييق علي التحول نحو الديمقراطية, بهدف ضمان بقائها في السلطة. بتعبير آخر إن البيئة الاجتماعية والثقافية بمكوناتها المختلفة من عادات وتقاليد وقيم ورؤي تبدو غير جاهزة أو غير مرحبة بتحول ديمقراطي متماسك في الكويت. وهو ما يقودنا إلي تعقيد أكبر للمسألة الديمقراطية في العالم العربي. وهذه علي أية حال من الموضوعات التي يطول شرحها والحديث عنها.