هل حلمت بالذهاب إلي مدينة النور؟ لم تحلم!! آه, جميل جدا أنك لم تحلم, هذا هو عين العقل, فلو كنت تورطت وحلمتم صحوت من نومك, ووجدت أن مؤخرتك ليست عارية,ووجدت جسمك ملفوفا بلحافين ثقيلين وفوقهما بطانية مستوردة, لو وجدت هذا واقعا وليس محض حلم فإن الدنيا لن تسع فرحتك, والغرور سيركبك, ولكن مسعاك قطعا سيخيب فكنت ستذهب سبعا وترجع نعجة, خاصة إذا كانت شخصيتك من النوع الهش, ولماذا نذهب بعيدا؟ فعندك أنا مثلا شخصيتي حديد, ولم تكن أبدا من النوع الهش, ولم أفكر يوما بالذهاب إلي مدينة النور هذه فكيف؟ ورقبتي مربوط بها جاموستان وبقرة أقرف فيهم كل يوم ويقرفون في, وإذا ماهفت نفسي إلي الهريسة والنور كنت أخطف رجلي إلي مركزنا أبو المطامير لكن ماذا في وسعي أن أفعل؟ فالحظ ضرب وعندما يضرب الحظ ياحبيبي فإنه قد يجعل المكسح يفوز بسباقات الماراثون, وكنت أن هذا المكسح فأخذوني من الدار إلي النور وقالوا سوف تذهب إلي مدينة النور وتدرس في الكوليج دي فرانس, الكوليج دي فرانس مرة واحدة!!.. أي والله الكوليج دي فرانس مرة واحدة.. مالك؟.. أري في عينيك الحسد كله.. أرجوك اصطبر؟ ولا تمن نفسك بالأمنيات الهوائية, ولا تتحسر علي دراستك زمان بإحدي الجامعات المرمية وسط الغيطان جنب أكوام السباخ, لتكن رابط الجأش ولتسمع الحكاية حتي نهايتها؟.. عند أي نقطة كنا نقف؟.. آه عند الكوليج دي فرانس.. حلو.., ولم أحب ياسيدي أن أغضبهم فشرخت إلي بلاد النور لأدرس في الكوليج دي فرانس, وقد عشت هناك عيشة راضية ومختلفة عن كل من ذهب فلم أغسل الصحون أو العربات, فمن الواضح أنه كان لي ظهر حديد فلم يستطع أحد أن ينظر حتي إلي بطني, وبعد الشهر الأول نسيت تماما أبو المطامير, ودعت علي الجاموستين والبقرة بألا يعيد الله أيامهم الهباب, وقد رحت أمتع نظري بعود الحريم الفرنساوي.. اعقل؟ ولا تقل حريم مصر المتشققة كعوب أرجلهن كحقل القطن الشراقي.. تقول ماذا؟.. تتهمني بعدم الانتماء وبهذه البساطة, هذا كلام كبير لكن لا بأس فهذا ليس مجالنا, المهم أنه وبعد فوات الشهر الثاني من إقامتي وجدت ذات يوم أهل مدينة النور كلهم يمشون في الشارع ووجدت ألوانا وموسيقات ومهرجانات, وأزياء غريبة, وهوجة..اتهموني بأنني نائم علي أذني.. وقالوا إن هذا يوم ذكري الثورة, وربطني المشهد فوقفت أتفرج, وعندما وصل الموكب عند مبني الكوليج توقف تماما وشاهدت بعض الصبيان يصعدون إلي أحد التماثيل ويضعون فوقه أعلاما وزينات.. قلت أمعقول هذا؟ لقد هرست قدماي أروقة الكوليج وجميع المنطقة من حوله ولمدة ثلاثة أشهر, ولم أشعر إطلاقا بوجود هذا التمثال الضخم الرابض أمام مبني الكوليج.. هل تتصور هذا؟.. ستتهمني قطعا بالعبط وتقول أمن قلة التماثيل عندنا؟ إن الناس عندنا صاروا تماثيل وأقل تمثال فيهم أجعص ديشليون مرة من ذلك التمثال الذي طلعت به السماء السابعة, نعم إن معك كل الحق في ذلك, أؤيدك تماما, ولكنك لم تصيرعلي حتي أحكي لك سر حسرتي الثقيلة, فالحكاية تكمن في المغزي الذي أحسسته من التمثال.. سأقول لك باختصار: التمثال يا صديقي كان للسيد شامبليون تعرفه طبعا, وتعرف أيضا حجره الرشيدي الشهير, كان السيد المبجل شامبليون يرتكز بإحدي ركبتيه علي رقبة أحد الفراعنة القدماء شيء مقزز أعرف ذلك, وأعرف أيضا أنه ستفور بداخلك الآن ثورة الفراعنة, وهذا مايجعلني قد أصدق مايقول البعض من أن المصريين ليسوا عربا, لكن طول بالك ولاتظن نفسك أحمس قاهر الهكسوس فالعين علت علي الحاجب, وأصبحت الدنيا أصلك وقتك, ولقد أصابتني نفس مشاعرك, ولكن ماذا أفعل واليد قصيرة وعاجزة إنني لم أتنفس في الوقت الذي أحسست فيه ببرد أوروبا كله يخرم في جسدي, حتي كدت أصبح كلوح الثلج فأقول في نفسي لماذا الفرعون خاضع وظللت لفترة علي هذه الحال حتي وجدت زميلي الأسترالي ينبهني لموعد محاضرة البروفيسير رينيه, والبروفيسير رينيه كفاكم الله شره رجل حمبلي لايعجبه العجب ولا الصيام في رجب, وهو في ما يختص بموعد الحضور والانصراف لايرحم أباه الذي جابه من ظهره, ولا يسامح أحدا ولو ركع عند رجليه وعجن له عجين الفلاحة. في هذه المحاضرة بالذات كان البروفسير رينيه يرطن كثيرا ويلف حول نفسه, ولم يدخل في الموضوع إلا بعد مقدمات كثيرة, ثم قال بفرنسية متمكنة يا أعزائي عندنا في هذه الفترة أبحاث كثيرة لابد أن ننجزها في أسرع وقت ممكن كلها عن الشرق وتاريخه وحضارته وأعلامه, وفنونه منها دراسات مثلا في شعر المتنبي, ورسالة أبي العلاء, وفلسفة الفارابي وابن رشد, والفكر الديني والسياسي عند حسن البنا وغيرها, وعند هذا الحد وجدت الدم يجري في عروقي, فساح لوح الثلج تماما, ووجدتني أقف منتصبا وسط الجموع الغفيرة من كل الملل والجنسيات لأصرخ صرخة مدوية, وأشيح معترضا في وجه رينيه الذي استغرب موقفي فلم ينطق ونزل عليه سهم الله, وخرجت صيحتي عن القاعة حيث وصلت الإعلام الفرنسي وجابوا صورتي في الليموند بعدها شحنوني علي أول باخرة بعدما فعلوا في ما جعل شعري يشيب قبل الأوان, وساءت حالتي شهورا وشهورا حتي وصل بي الأمر الي أن أتخذ طريق الدروشة, فكنت أدعو دائما في غدواتي ورواحي قائلا, وأنا أبكي بحرقة, اللهم أرفع أقدام شامبليون عن رقبة حبيبي الفرعون.. اللهم شلها, اللهم اجعله يصرخ علي الملأ, ويقول: شلت قدمي.. شلت قدمي!!.