من الطبيعي أن يسعي كل زعيم إلي اكتساب شعبية جارفة في بلده كي يضمن التأييد والمساندة, ونسلم جميعا بأن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر حظي بأكبر شعبية مصرية وعربية في العصر الحديث بسبب انحيازه المطلق للطبقات الفقيرة والكادحة والتي نشأ فيها وكان واحدا منها, ورغم مرور أكثر من نصف قرن علي رحيله فمازال الشعب يذكر له قوانين الإصلاح الزراعي والقضاء علي الاقطاع وسيطرة رأس المال علي الحكم بخلاف تأميم ومصادرة الشركات المستغلة وتأميم قناة السويس ومنح العمال والفلاحين نصف مقاعد البرلمان وذلك بخلاف انشاء المشروعات الضخمة كالسد العالي وشركات الحديد والصلب وغزل المحلة وغيرها, كما جعل العمال أعضاء في مجالس إدارات البنوك والشركات, فضلا عن تخفيض أجرة المساكن لصالح المستأجرين ومهما تضرر الملاك, كما وزع الأطيان المستولي عليها من كبار الملاك علي صغار المزارعين. وفي ميدان الغذاء والمعيشة وهي أهم ضرورات الحياة اليومية للمواطن كالخبز والزيت والسكر وغيرها وبالنسبة للطاقة والمواصلات ورغم أن مصر لا تنتج معظمها وإنما نستوردها من الخارج وبالعملة الصعبة فقد أصر عبد الناصر علي تقديمها للمواطن وبأسعار رمزية لا تتناسب مطلقا مع تكاليفها الفعلية علي أن تتحمل الحكومة والدولة فارق الأسعار التي كانت تتضاعف باستمرار في السوق العالمية... ومن هنا بدأت قصة الدعم الحكومي الذي ساعده علي اتخاذه أن الخزانة العامة كانت عامرة, ويكفي العلم بأن مصر وقتئذ وفي نهاية العصر الملكي كانت تداين بريطانيا العظمي بأربعمائة مليون جنيه استرليني أي مايوازي آلاف المليارات من الدورات حاليا وكانت كسوة الكعبة المشرفة والمحمل ترسل إلي مكةالمكرمة من مصر, وكان الجنيه المصري يباع بسبعة ريالات سعودية.. وهكذا أصبح ثمن رغيف الخبز خمسة مليمات فقط وأجور المواصلات بين قرش وقرشين وسعر البنزين والغاز والسولار أقل من ربع ماتتحمله الدولة, وبدأ عمل المجمعات الاستهلاكية فكانت تباع الدجاجة بجنيهين ويقف الوسطاء والدلالات بالطوابير ساعات طويلة للحصول علي السلع المدعمة وبيعها بأضعاف ثمنها في السوق السوداء واقتسام الربح مع عمال المجمع, وهكذا بدأ الفساد ينتشر مع الدعم ووجود ثمنين للسلعة الواحدة, ويكفي أن نعلم أن اسطوانة البوتاجاز كانت تباع إلي عهد قريب بخمسة جنيهات ولكنها تهرب وتباع بخمسين جنيها في السوق السوداء, وأن البنزين الرخيص كانت تستهلكه السفارات والدبلوماسيون الأجانب بالسعر المدعم ومن دم الشعب المصري الفقير. وللأسف فقد كانت فاتورة الدعم تكلف الدولة والاقتصاد المصري المتهاوي مبالغ ضخمة تستوجب إعلان افلاسنا بعد أن تراكمت علينا الديون الخارجية والداخلية والتي كانت فوائدها فقط تكلفنا ستمائة مليون جنيه كل يوم.. وكم نبه وحذر الخبراء جميع الرؤساء الذين أتوا بعد عبد الناصر وآخرهم مبارك وطالبوا ولو بترشيد الدعم تدريجيا ولكن للأسف المرير فقد كان الاحتفاظ بالكرسي والشعبية الكاذبة أهم لديهم ألف مرة من مصلحة الشعب والوطن, ولتذهب مصر إلي الجحيم. وأخيرا أتي هذا الرجل العاشق الصادق لتراب وطنه, أتي السيسي لكي يبدأ مسيرة الإصلاح والبناء وتجرع الدواء المر, وضحي بالكثير من شعبيته من أجل مستقبل وطنه, وصارحنا بكل شيء.. بل وبدأ بنفسه وبثروته ومرتبه مضحيا بكل شيء فهل نساعد أنفسنا وقبل أن نساعده أم نظل نسير وراء سراب الدعم وخداع الجماهير الكاذبة؟!.