قيرغيزيا أصبحت دولة غنية عن التعريف بعد ثورة السوسن الملونة في عام2005 والأحداث التي رافقت هذه الثورة, والصراع الروسي الأمريكي عليها. بعد الإطاحة بالرئيس أوسكار أكاييف في تلك الثورة, تولي الحكم كورمانبيك باقييف لمدة4 سنوات كاملة. ثم أجري انتخابات رئاسية نجح فيها لفترة رئاسية ثانية. ولكن قيرغيزيا كانت طوال هذه السنوات في مهب الريح بالمعني السياسي والاقتصادي. إذ اقترن الحكم القبلي بالفساد ومعاداة الأقليات. قامت أكثر من هبة راح ضحيتها قتلي وجرحي. ولكن في أبريل2010 تمكنت السيدة روزا أوتونبايفا من الإطاحة بباقييف وطرده خارج البلاد. وأوتونبايفا سيدة سوفيتية قديمة الشكيمة وشغلت أيضا منصب وزيرة خارجية قيرغيزيا. مما أتاح لها تكوين سمعة طيبة علي المستوي الدولي والإقليمي. وفي يونيو الماضي اندلعت أحداث جنوب قيرغيزيا( في مدينتي أوش وجلال أباد) التي أودت بحياة المئات وشردت عشرات الآلاف. في ظل هذه اللوحة المعتمة والمثيرة للتساؤلات, تمكنت روزا أوتونبايفا من تحقيق خطوة تاريخية في غاية الأهمية والخطورة علي المستويين الداخلي والإقليمي. فقد أوقفت العمل بقانون الطواريء الذي فرض أثناء أحداث أوش وجلال أباد, وأجرت استفتاء لم تتمكن أي دولة أو منظمة دولية من التشكيك في نتائجه بتحويل قيرغيزيا من دولة رئاسية برلمانية إلي دولة برلمانية رئاسية. أبدت روسيا انزعاجها من هذه الخطوة بحجة أن هذا النظام لا يتناسب مع قيرغيزيا, وحسدتها( خوفا وقلقا) الدول المجاورة مثل أوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان. وعلي الفور قامت بإجراء انتخابات برلمانية في10 أكتوبر2010 وسط حالة من الاستنفار بين جميع الدول المجاورة ووسائل الإعلام المحلية والإقليمية والعالمية. فالكل كان واثقا100% من اندلاع أحداث دموية واسعة النطاق. قام بمراقبة الانتخابات البرلمانية القيرغيزية580 مراقبا من52 دولة, من بينهم مراقبون من مجلس أوروبا ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبية ورابطة الدول المستقلة ومنظمة شنغهاي للتعاون ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي, اضافة إلي مراقبين من السفارات الأجنبية. وكما نعرف أن قيرغيزيا مقسمة إلي7 مناطق إدارية, فأضيف شرط النصف بالمائة إلي نسبة الخمسة بالمائة. أي يجب علي كل حزب أن يحصل علي5% لدخول البرلمان. وأن يحصل علي نصف بالمائة في كل منطقة من المناطق السبع. لم ير أحد في ذلك مساسا بالدستور أو إخلالا بالقوانين والتشريعات. كل ما في الأمر أن الدولة البرلمانية الرئاسية يجب أن تضم برلمانا قويا قادرا علي تمثيل أكبر قدر من سكان البلاد. وكانت المفاجأة التي شاهدنا فصولها في الفترة من2 إلي13 أكتوبر2010. لم تقع أي أحداث لا قبل الانتخابات ولابعدها. وشارك في هذه الانتخابات التاريخية29 حزبا سياسيا من حوالي150 حزبا هي إجمالي الأحزاب السياسية في قيرغيزيا. وكل ذلك علي120 مقعدا فقط. مع إغلاق مراكز الاقتراع ظهرت التوقعات التي لم تختلف كثيرا عما أعلنته اللجنة المركزية للانتخابات في قيرغيزيا يوم الاثنين1 نوفمبر الحالي. وبحسب هذه النتائج دخلت5 أحزاب البرلمان الجديد. ففاز حزب أتا جورت( الوطن) المعارض بالمركز الأول بحصوله علي8,47% من أصوات الناخبين(28 مقعدا). واحتل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يترأسه النائب الأول لرئيس الحكومة المؤقتة ألماظبيك أتامبايف المرتبة الثانية بحصوله علي7.83% من أصوات الناخبين(26 مقعدا). وجاء حزب آر ناميس( الكرامة) المعارض برئاسة رئيس الوزراء السابق فيليكس كولوف في المرتبة الثالثة بنسبة7.57%(25 مقعدا). وحزب ريسبوبليكا( الجمهورية) المستقل برئاسة رجل الأعمال عمر بك بابانوف في المرتبة الرابعة بنسبة6.93%(23 مقعدا). وحزب أتا ميكين( البلاد) بزعامة أحد رموز الحكومة المؤقتة الحالية في المرتبة الخامسة بنسبة5049%(18 مقعدا). علي خلاف كل التوقعات, لم تتعرض قيرغيزيا إلي أي هزات سياسية أو اقتصادية. الهدوء يخيم علي الشارع القيرغيزي والمنافسة تجري داخل أسوار البرلمان من أجل تشكيل التحالفات الضرورية اللازمة لاختيار رئيس الوزراء الذي سيكون الحاكم الفعلي للبلاد بمساندة البرلمان. المدهش أن حزبين معارضين دخلا البرلمان, اضافة إلي حزب مستقل يميل إلي المعارضة. لكن الأكثر إثارة للدهشة أن الحزب الذي احتل المرتبة الأولي هو حزب معارض وموال للرئيس السابق كورمانبيك باقييف وله شعبية ضخمة في جنوب قيرغيزيا. كل ذلك لم يمنع الحكومة المؤقتة من المضي قدما في خطوتها التاريخية وسط انتقادات الدول المجاورة التي تخشي أنظمتها السياسية من عدوي التجربة. انتقال قيرغيزيا من دولة رئاسية إلي برلمانية قد لا يكون هو جوهر الأمر, وإن كان في حد ذاته مؤشرا مهما له دلالاته السياسية والاجتماعية والتاريخية في حياة جمهورية سوفيتية سابقة يصعب توصيف نظام الحكم فيها. ولكن الأهم من كل ذلك هو كيف جرت الانتخابات في ظل احتقان وتوترات وتوقعات بالفشل واندلاع العنف؟! وكيف نجحت السيدة روزا أتونبايفا في تحويل العنف والشغب والانقلابات المتوالية إلي منافسة مفتوحة وشفافة, ونقل الصراعات الدموية في الشوارع إلي حوار ديمقراطي داخل البرلمان؟!.